قال أبو الفتح : أما الفتح - وهي قراءة العامة - فعلى أنه واحد، وهو [١٠٨و] اسم سمي به الفعل في الخبر، وهو اسم "بَعُدَ"، كما أن شتان اسم "افترق" وأوَّتَاه اسم "أتألم"، وأُفّ اسم "أتضجر" وقد ذكرنا في "أفّ" طرفا صالحا من هذا الحديث١.
ومن كسر فقال :"هيهاتٍ" منونا أو غير منون فهو جمع هيهات وأصله٢ هيْهيات : إلا أنه حذف الألف، لأنها في آخر اسم غير متمكن٣، كما حذفت ياء الذي في التثنية إذا قلت : اللذان وألف ذا إذا قلت : ذان.
ومن نون ذهب إلى التنكير، أي : بُعْدًا بُعْدًا.
ومن لم ينون ذهب إلى التعريف، أراد : البُعْد البُعْد.
ومن فتح وقف بالهاء؛ لأنها كهاء أرْطَاة٤ وسِعْلَاة٥.
ومن كسر كتبها بالتاء؛ لأنها جماعة، والكسرة في الجماعة بمنزلة الفتحة في الواحد، كما أن سقوط النون من ضربا بمنزلة الفتحة في ضرب طردا على سقوط النون في لن يضربا بمنزلة الفتحة في أن يضرب. فلفظ البناء في هذا كلفظ الإعراب.
ومن قال :"هيهاةٌ هيهاةٌ" فإنه يكتبها بالهاء؛ لأن أكثر القراءة "هَيْهَاةَ" بالفتح، والفتح يدل على الإفراد، والإفراد بالهاء كهاء أرطاة وعَلْقَاة٦، غير أن من رفع فقال :"هيهاةٌ" فإنه يحتمل أمرين :
أحدهما أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه كما بنى الناس غيره، وقوله :﴿لِمَا تُوعَدُون﴾ خبر عنه، كأنه قال : البعد لوعدكم، كما يقول القائل : الخلف لموعدك، والضلال لإرشادك، والخيبة لانتجاعك.
والآخر أن تكون مبنية على الضم، كما بنيت نحن عليه، وكما بنيت حَوْبُ٧ عليه في الزجر، ثم اعتقد في التنكير فلحقه التنوين على ما مضى. ونحو من ذلك ما حُكي عن بعضهم من ضمة نون التثنية في الزيدانُ والعمرانُ.
٢ أي "هيهات" الجمع.
٣ وحينئذ قلبت الياء ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم يكن ثمة سبيل إلى قلبها قبل حذف الألف، لأنها لام فلا تقلب إذا كان بعدها ألف. وانظر التصريح.
٤ الأرطاة : واحدة الأرطى؛ وهو شجر نوره كنور الخلاف، وثمره كالعناب، مر تأكله الإبل، غض، وعروقه حمر.
٥ السعلاة : الغول.
٦ العلقاة : نبت، كأنه واحد علقى كسكرى.
٧ أصل الحوب : الجمل، ثم كثر حتى صار زجرا له، فقالوا : حوب، مثلث الباء.