وخير مثال على ما نقول تفسير الكشاف لمحمود بن عمر الزمخشري الذي تضاربت فيه أقوال أهل العلم قديما وحديثا، فمنهم من رفعة وجعله على قمة هرم كتب التفسير، ومنهم من تحامل عليه ونزل به إلى قاعدة الهرم، بل ومنهم من نهى عنه، وحرم النظر فيه كما صرح بذلك تاج الدين السبكي وغيره.
فمنذ أن ظهر تفسير الكشاف في القرن السادس الهجري بما يحمله من آراء واجتهادات شخصية للزمخشري، تناولته أقلام الدارسين والباحثين مدحا وذما، وقد تميزت هذه الدراسات بميزتين اثنتين :
١ ـ أن هذه الدراسات كانت في أغلبها تركز على جانب واحد من جوانب تفسير الكشاف، كالجانب العقدي مثلا من حيث تتبع اعتزالاته ومسلكه في تأويل الآيات القرءانية بما يخدم مذهبه وميوله، أو الجانب البلاغي وذلك ببيان مسلك الزمخشري في تطبيق نظرية النظم البلاغي التي بها علل سر الإعجاز في القرءان الكريم.
٢ ـ أن هذه الدراسات لم تخل في أغلبها من التعصب والغلو للزمخشري أو ضده، وقد امتد أثر هذا التعصب والغلو في الحكم على كشاف الزمخشري إلى عصرنا الحاضر.
إلا أننا إذا رجعنا إلى تفسير البحر المحيط فإننا نجده قد حاول أن يتخطى هذا وذاك، حيث تناول تفسير الكشاف بالدراسة من مختلف جوانبه، كما أن دراسته النقدية لهذا التفسير، وما وقف عليه من نقائص لم تمنعه من الإشادة بمحاسنه، وإظهار إعجابه بالجوانب التي وفق فيها، وإبراز القيمة العلمية للجديد فيه.
٢ ـ ولما كان شعار المعتزلة هو تقديس العقل وتحكيمه، ونبذ التقليد ومجانبته، فإن الزمخشري قد بادر في مقدمة تفسيره إلى الدعوة إلى إعمال الرأي والفكر، لأن كثيرا من حقائق هذا القرآن لا تنكشف ـ حسب رأيه ـ لمقلد ( فهناك من لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم، وإلا واسطتهم وفصهم، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم، عناة في يد التقليد، لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم.)(١)
وقد أبان أكثر عن مسلكه هذا عندما قال :( امش في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه، أعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل، أذل من المقلد عند صاحب الدليل.)(٢)
وفي سبق العقل للشريعة يقول عند تفسير قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " سورة الشورى: ٥٢
يقول الزمخشري :( فإن قلت : قد علم أن رسول الله ﷺ ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه، فما معنى قوله :"ولا الإيمان "والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الايمان بالله وتوحيده، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده، فكيف لا يعصمون من الكفر ؟ قلت : الإيمان إسم يتناول أشياء، بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي، ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى :"وما كان الله ليضيع إيمانكم "(٣)بالصلاة، لأنها بعض ما يتناول الإيمان. )(٤)
(٢). الزمخشري، أطواق الذهب في المواعظ والخطب : ٤٦. المقالة : ٣٧
(٣). سورة البقرة : ١٤٣
(٤). الكشاف : ٤/٢٣٥
ويقول :( الدين والعلم حنيفي وحنفي )(١)ولذا كان يعد من أعيان هذا المذهب، وقد ترجم له صاحب تاج التراجم في طبقات الحنفية، بل كان هو أيضا يعتبر نفسه أحد رجالات هذا المذهب، فحيثما قال في كشافه :" وهو كذا عند أصحابنا " إنما يقصد أئمة الأحناف(٢).
وهكذا نجده يمضي في تفسيره الكشاف مستمدا مادته الفقهية من المذهب الحنفي بالدرجة الأولى، مع الإكثار من ذكر آراء الشافعية في مواطن الخلاف، وفي مواضع قليلة فقط يعرج على المذهب المالكي، فينقل رأيه الفقهي في بعض المسائل دون تفصيل أو مناقشة، والأمثلة الآتية تبين ذلك :
في تفسير قوله تعالى :" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.. " سورة البقرة : ٢٢٣
قال الزمخشري :( واللغو من اليمين : الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه، والدليل عليه " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان "، " بما كسبت قلوبكم " واختلف الفقهاء فيه، فعند أبي حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه، وعند الشافعي : هو قول العرب لا والله، وبلى والله بما يؤكدون به كلامهم، ولا يخطر ببالهم الحلف. )(٣)
في تفسير قوله تعالى :" وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح.." سورة البقرة : ٢٣٥
قال الزمخشري :(.. يعني إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئا. أو يعفو الولي الذي يلي عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعي، وقيل هو الزوج، وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملا، وهو مذهب أبي حنيفة، والأول ظاهر الصحة، وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيها نظر. )(٤)
(٢). انظر مثلا الكشاف : ١/٢٨٥
(٣). الكشاف : ١/٢٢٨
(٤). الكشاف : ١/٢٨٦
ومنه أيضا تفسير الصحابة رضي الله عنهم ؛ حيث روى الحاكم في مستدركه أن تفسير الصحابي الذي أدرك التنزيل له حكم المرفوع(١)، وقد قيده بعضهم بما ليس للرأي فيه مجال(٢).
كما ألحق به تفسير التابعين الذين لزموا من عرف بالتفسير من الصحابة وأخذوا عنهم هذا العلم، ولذا نجد أقوال الصحابة في التفسير امتزجت بأقوال التابعين، وهو الشائع في أعمال المفسرين.
ولم يختلف المفسرون من حيث المبدأ حول قيمة التفسير بالمأثور، وإنما تباينت مواقفهم باعتبار ما طرأ عليه من أسباب ضعف مختلفة، جعلته محاطا بسياج من الشك عند بعضهم، ومن هذه الأسباب(٣)شيوع الوضع في التفسير لنفس الأسباب التي أدت إلى الوضع في الحديث النبوي، وكثرة الإسرائيليات التي امتزجت بالتفسير منذ القرون الأولى، وحذف الأسانيد، كما قال الإمام أحمد :( ثلاث لا أصل لها : المغازي والملاحم والتفسير.)(٤)
ومهما كانت هذه الأسباب وغيرها، فإنها لا تعفي المفسر من البحث عن الصحيح من التفسير بالأثر وتقديمه عن غيره إن وجد، ومن هنا نجد أبا حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط، والزمخشري في تفسيره الكشاف قد اهتما بالتفسير بالمأثور، وإن كان على تفاوت بينهما، واختلاف بين مسلكيهما في التعامل معه.
(٢). منهم ابن الصلاح والنووي وغيرهما. انظر محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، دار إحياء التراث العربي : ج١/٩٤
(٣). التفسير والمفسرون : ١/١٥٦
(٤). المصدر نفسه : ٢/١٥٦
ولقد كان الزمخشري بتفسيره الكشاف خاتمة مرحلة زاهرة من مراحل التفسير والنحو بمنهجه اللغوي الفريد وخصائصه الذاتية، واستيعابه لفكر أئمة النحو ومؤلفي كتب المعاني والدراسات البلاغية، وتعبيره عن ذلك في إطار من الملاءمة بين الإعراب والنظم القرآني، وبيان خصائص التعبير القرآني المعجز، وابتداع منهج متميز من مناهج المفسرين، بتمثله أقوالهم وتلوينها بفكره واتجاهاته الشخصية، حتى ليجعلك تؤمن أن ما ينقله هو من اجتهاداته لإحكامه النقل وقوة شخصيته وكثرة اختياراته، مما يعطي أنه لا ينقل إلا ما هو مقتنع به، وفي حاجة إليه دون الدخول في سرد الأقوال ومناقشتها ـ كما فعل أبو حيان الأندلسي ـ والترجيح بينها، وإنما يذكرها مختصرة، متجاوزا لها إلى ما يختاره، مكتفيا باللمحة والإشارة إلى سبب اختيار رأي معين(١).
ويمكن رصد ملامح منهج الزمخشري في تعامله مع مصادره النحوية في العناصر الآتية :
١ ـ يبدو الزمخشري من خلال النمادج والأمثلة التي بين أيدينا أنه بان على أسس السابقين ومنطلق منها، منتفع بكتب معاني القرآن كغيره من المفسرين، ومضيف إليها بشخصيته الفذة، وما أتيح له من معارف نضجت واكتمل نموها في عصره وهذا ـ في رأيي ـ معنى قول من قال :( إنه أخذ من الرماني والزجاج أو سلك سبيلهما )(٢)
(٢). انظر فصل : مسلكهما في المباحث العقدية من هذا الباب، وما جاء في حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي في سياق حديثه عن التفسير، حيث قال :( وبعد هؤلاء ـ الطبري وتفسيره أجل تفسير للمتقدمين ـ ثم استفاض التأليف حتى انتهى للزجاج والرماني، ومنهما أخذ الزمخشري. ) الشهاب الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، أو حاشية الشهاب على البيضاوي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط١، ١٩٩٧م، ج١/١٦
وهكذا نشأ هذا العلم على أيدي المتكلمين من علماء المعتزلة ومفكريها من أمثال عمر بن عبيد، وبشر بن المعتمر، وأبي عثمان الجاحظ، وتعهده في فترة التطور والارتقاء الرماني والقاضي عبد الجبار وغيرهما(١).
ولا شك أن عقول هذه الطائفة التي صقلتها الفلسفة والمنطق اللذان أكبوا على درسهما، وتعمقوا في مباحثهما، كانت مهيأة للخوض في المسائل البلاغية ودروس البيان، وتنظيم القول فيهما تنظيما دقيقا، وربما كانت طبيعة المهمة التي اضطلع بها المعتزلة في الدفاع عن الإسلام، ومناظرة أعدائه من أصحاب الملل والعقائد الأخرى، تدفعهم دفعا إلى العناية بمسائل البلاغة والبيان، وإتقان البحث فيهما، فقد كانت البلاغة وسيلة من وسائل الإقناع، وسلاحا مهما في المناظرة والجدل(٢).
ومن هنا اجتهد المعتزلة في الإحاطة باللغة وآدابها ليتخيروا التعبير المناسب للفكرة، وليتفهموا النصوص ويغوصوا إلى أسرارها، ( ولأنهم كانوا يعدون أنفسهم للإنتصار في المناظرات الدائرة بينهم وبين أهل الكتاب من جهة، وبينهم وبين مخالفيهم من المسلمين من جهة أخرى، ولهذا كثر في المعتزلة البلغاء والأدباء واللغويون والفلاسفة. )(٣)
ولما كانت الدراسات البلاغية قد نشأت في أجواء من الصراع الفكري والجدل الكلامي، فإن هذا قد جعل الدراسات التطبيقية تنضج جنبا إلى جنب مع الجانب التنظيري فيها.
(٢). انظر : المصدر نفسه : ١٩٦
(٣). الحوفي، الزمخشري : ٢٠٠
ثم قال :( وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه، حتى ظهر تفسير جار الله الزمخشري، ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة، ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة، فمن أحكم عقائد أهل السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها، ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء.)(١)
وقد تابع السيوطي ابن خلدون في تعليل سر شهرة الكشاف وذيوعه واشتغال طلبة العلم به، سواء كانوا من خصومه أو من أتباعه.
قال السيوطي بعد أن ذكر قدماء المفسرين :( ثم جاءت فرقة أصحاب نظر في علوم البلاغة التي بها يدرك وجه الإعجاز، وصاحب الكشاف هو سلطان هذه الطريقة، فلذا طار كتابه في أقصى الشرق والغرب، ولما علم مصنفه أنه بهذا الوصف قد تجلى قال ـ تحدثا بنعمة الله وشكرا ـ :
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء، والكشاف كالشافي)(٢)
(٢). انظر : يوسف إليان سركيس، معجم المطبوعات العربية والمعربة، طبع لبنان : ج١/٩٧٥. نقلا عن نواهد الأبكار، للسيوطي.
ـ ففي التفسير بالمأثور تجلى لنا تفوق أبي حيان على الزمخشري بشكل واضح، حيث رأينا مسلك الزمخشري في تفسير القرءان بالقرءان، إذ اتخذ منه ذريعة ليضرب صفحا عن تفسير القرءان بالسنن والأحاديث النبوية، وقد ظهر موقفه من مرويات السنة الواردة في تفسير القرءان في صورة مماثلة لموقف أسلافه من علماء المعتزلة، وذلك بالمغالاة في الطعن في عدالة الرواة وإن كانوا من رواة الصحيح من الحديث النبوي، وتقديم العقل وتحكيمه في قبول الأحاديث وردها أو تأويلها، كما تجلى ضعفه وقصر باعه في الرواية والنقل من حيث خلطه بين المرويات الصحيحة والضعيفة والموضوعة من غير ضابط يرجع إليه، فكان يقبل الضعيف والموضوع من الحديث ويرويه بصيغة توهم صحته، ويروي الصحيح من الحديث ويرده أو يورده بصيغة توهم ضعفه، وفي كلا الموقفين مذمة ومنقصة لتفسير الكشاف وصاحبه.
ـ في حين رأينا أبا حيان بالرغم من إقلاله من تفسير القرءان بالقرءان فإنه رجع إلى تفسير القرءان بالسنة، وسار في ذلك وفق قواعد واضحة وسليمة، حيث كان يقدم مرويات السنة عن التفسير بالرأي، ويرجع إلى الصحيح من السنة ويكثر منه، وينفر من كل ما هو ضعيف أو معلول من قصص وأخبار وإسرائيليات وغيرها، كما تتبع أغلبها النقد مبينا زيفها وبطلانها، وكان يحيل في الأغلب الأعم على مصادره من السنة بكل أمانة، وهو في ذلك يقف على طرف نقيض من مسلك الزمخشري.