وهكذا فإن تفسير البحر المحيط بما يحمله من خصائص، وبما تضمنه من نقد موضوعي لتفسير الكشاف في مختلف جوانبه قد أحدث نظرة جديدة لهذا التفسير، وقد تجلت هذه النظرة في أعمال المفسرين اللاحقين وغيرها من الدراسات، كالدر اللقيط من البحر المحيط لابن مكتوم القيسي، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري، والمحاكمات بين أبي حيان وابن عطية والزمخشري ليحيى الشاوي، وغيرها.
ومن هذا كله بدا لي أن رأي أبي حيان في تفسير الكشاف من خلال تفسيره البحر المحيط كان أقرب تلك الآراء إلى القصد والاعتدال، مما ولد عندي هذه الفكرة، ودعاني إلى اختيار هذه الموازنة بين هذين الكتابين في التفسير لتكون موضوع بحثي في هذه المرحلة، وذلك تحت عنوان :
موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي
كما أن فكرة الموازنة بين هذين المفسرين كانت تزداد نضوجا في ذهني يوما بعد يوم وأنا أدرس مادة مناهج المفسرين، فكنت كلما رجعت إلى تفسير البحر المحيط وقرأت منه شيئا تبين لي عظمة هذا التفسير وعظمة مؤلفه، وأعجب كيف لم يبلغ هذا الكتاب من الشهرة والانتشار ما بلغه كشاف الزمخشري، وأتساءل قائلا : لماذا لم يلق من العناية والخدمة مثل الذي لقيه تفسير الكشاف ؟
ومن هذا المنطلق تحدث الزمخشري عن الحسن والقبح العقليين، فقرر بأنه قد يرى العقل صوابا ثم يخطئه السمع، ودلل على صحة هذه القاعدة وجعلها أصلا من الأصول التي يفسر القرآن في ضوئها، وهذا واضح في كثير من المواضع في تفسيره.
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " سورة مريم : ٤٧
قال الزمخشري متحدثا عن وعد إبراهيم أباه بالإستغفار له :( فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر للكافر ويعده بذلك ؟ قلت : لقائل أن يقول إن الذي منع من الإستغفار للكافر إنما هو السمع، فأما القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالإستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى :" إلا قول إبراهيم لأستغفرن لك " فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأما :"عن موعدة وعدها إياه " فالواعد هو إبراهيم لا آزر، أي: ما قال " واغفر لأبي" إلا عن قوله " لأستغفرن لك"، وتشهد له قراءة حماد الراوية: وعدها أباه، والله أعلم.)(١)
وفي تفسير قوله تعالى :".. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.." سورة سبأ: ١٣
قال الزمخشري :( فإن قلت : كيف إستجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير ؟ قلت : هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب.)(٢)

(١). الكشاف : ٣/٢١
(٢). الكشاف : ٣/٥٧٢

وفي تفسير قوله تعالى :" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم.. " سورة المائدة : ٥
قال الزمخشري :( ويستوي في ذلك جميع النصارى، وعن علي رضي الله عنه أن استثنى نصارى بني تغلب، وقال : ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي، وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس، وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة، وقال صاحباه : هما صنفان، صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. )(١)
وفي تفسير قوله تعالى :" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.. " سورة النور : ٢
قال الزمخشري :(.. فإن قلت : أهذا حكم جميع الزناة الزواني، أم حكم بعضهم ؟ قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإن المحصن حكمه الرجم، وشرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست : الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول، إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي : الإسلام ليس بشرط، لما روي أن النبي ـ ص ـ رجم يهوديين زنيا(٢)، وحجة أبي حنيفة قوله(٣)ـ ﷺ ـ من أشرك بالله فليس بمحصن " )(٤)
(١). الكشاف : ١/٦٠٧
(٢). متفق عليه من حديث ابن عمر.
(٣). قال ابن حجر :( أخرجه إسحاق والدارقطني وتفرد به إسحاق. قلت : قال إسحاق في مسنده أن شيخه حدثه به مرة أخرى موقوفا ) انظر الكشاف ٣/٢٠٩ هامش : ٢
(٤)، الكشاف : ٣/٢٠٩

فقد جعل أبو حيان الإلمام بالتفسير بالمأثور من الشروط التي يجب على المفسر أن يتحقق بها، ونص على ذلك في مقدمة كتابه البحر المحيط في معرض كلامه عن شروط المفسر فقال :( الوجه الرابع : تعيين مبهم، وتبيين مجمل ؛ وسبب نزول، ونسخ.. ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله ﷺ، وذلك من علم الحديث ؛ وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها و رويناها، وذلك كالصحيحين، والجامع للترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة وسنن الشافعي، ومسند الدارمي، ومسند الطيالسي، ومسند الشافعي، وسنن الدارقطني، ومعجم الطبراني، والمعجم الصغير له، ومستخرج أبي نعيم على مسلم، وغير ذلك )(١).
وإلى جانب تنويه أبي حيان بالقيمة العلمية للتفسير بالمأثور وأهميته، فإنه حذر من جهة أخرى من حشو كتب التفسير بما لا يصح من الآثار والأخبار. ففي سياق نقده لمن سبقه من المفسرين، وذكر مآخذه عليهم قال :( وكذلك أيضا ذكروا مالا يصح من أسباب النزول وأحاديث في الفضائل، وحكايات لا تناسب وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في كتب التفسير. )(٢)
ولئن كان أبو حيان مقلا في تفسير القرآن بالقرآن، فلعله كان يرى بأن تفسير القرءان بالقرءان الذي هو أعلى درجات التفسير إنما هو ما صح رفعه إلى النبي ـ ص ـ بأن آية كذا هي تفسير وبيان لآية كذا، ولا شك أن هذا النوع من التفسير قليل، أما تفسير القرءان بالقرءان القائم على اجتهاد المفسر في فهم آيات القرءان في ضوء بعضها بعضا فإن في تفسير القرآن بالسنة ما يغني عن ذلك، وأن تفصيل المجمل أو تقييد المطلق أو تخصيص العام في القرآن إنما وقع أغلبه بالسنة، ولذا نجد أبا حيان لم يكثر من تفسير القرآن بالقرآن في منهجه، ولم يأخذ به إلا في مواضع قليلة.
(١). البحر المحيط : ١/٦
(٢). المصدر نفسه : ١/٦

وإنما خص بهذا القول لصلته الاعتزالية بالرماني النحوي، ولأن الزجاج هو الذي نضج على يديه التأليف في المعاني، ولأن الزمخشري هو الذي أوصل المنهج اللغوي إلى ذروته.
إلا أن هذا المنهج قد سبب له انتقادات ممن لم يستسيغوا منه هذا المسلك، فوصفه بعضهم بالأنفة والكبر لعدم تصريحه بمصادره في كثير من المواضع(١)، كما وصف أبو حيان هذا العمل أحيانا بالسرقة، وبالتلفيق أحيانا أخرى.
من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى :" هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج " سورة ص : ٥٦ ـ ٥٧
حيث ذكر أبو حيان إعراب الآية الثانية ثم قال(٢):
( وقال الزمخشري(٣): وآخر، أي عذاب آخر أو مذوق آخر، وأزواج صفة لآخر، لأنه يجوز أن يكون ضروبا، أو صفة للثلاثة، وهي حميم وغساق وآخر من شكله. انتهى، وهو إعراب أخذه من الفراء(٤). )
وفي تفسير قوله تعالى :"والفجر وليال عشر " سورة الفجر : ١ ـ ٢
قال أبو حيان :( وقال الزمخشري وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة، فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به ؟ قلت لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بعض منها، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، فإن قلت فهل عرفت بلام العهد لأنها ليال معلومة معهودة ؟ قلت لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، انتهى، أما السؤالان فظاهران، وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق، لا يعقل منه معنى فيقبل أو يرد )(٥)
(١). د. عدنان زرزور، الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير : ٤٧٧ وما بعدها.
(٢). البحر المحيط : ٧/٤٠٦
(٣). الكشاف : ٤/١٠١
(٤). الفراء، معاني القرءان، تحقيق علي عمر النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة : ٢/٤١١
(٥). البحر المحيط : ٨/٤٦٨

و كانت الدراسات البلاغية في عصر الزمخشري قد بلغت عصر النضج والازدهار في جانبها النظري والتطبيقي على السواء، فأقبل على دراسة التراث البلاغي عند سابقيه من المعتزلة مما كتبه النظام والجاحظ، كما اطلع على كتب معاني القرآن للفراء، والنكت في إعجاز القرآن للرماني وغيرهما، أما أكثر الناس تأثيرا في الزمخشري في هذا الجانب فهو عبد القاهر الجرجاني الأشعري ونظرية " النظم " التي نضجت على يده، وإذا كان الجاحظ قد سبق بفكره الثاقب أن لمح البذور الأولى لهذه النظرية في بلاغة القرآن الكريم، فإن عبد القاهر الجرجاني قد استطاع أن يخرج هذه النظرية في صورتها المكتملة في كتابيه " دلائل الإعجاز " و" أسرار البلاغة ".
ولما جاء الزمخشري لم يكتف بالإلمام بآراء من سبقوه في الدراسات البلاغية، بل حاول أن يبدأ من حيث انتهى المتقدمون، فيزيد علم البلاغة تعميقا وتدقيقا.
فنحن إذا رجعنا إلى البلاغة قبل الزمخشري، فإننا لا نجدها مقسمة هذا التقسيم الثلاثي المعروف وهو : علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وإنما كان يطلق أحيانا على مباحثها جميعا إسم " البديع " كما فعل ابن المعتز مثلا، كتابه " البديع "(١)وبعضهم أطلق عليها اسم " البيان " كما فعل عبد القاهر، أما الزمخشري فهو أول من قسم البلاغة إلى ثلاثة أقسام هي: المعاني، والبيان، والبديع.
(١). نشره كراتش قوفسكي، انظر : البلاغة تطور وتاريخ : ٦٧

أما الأستاذ عبد العظيم الزرقاني فيرى أن تفسير الكشاف قد امتاز عن غيره من التفاسير بأمور جعلته يحظى بهذه الصدارة، ثم ذكر ( منها خلوه من الحشو والتطويل، ومنها سلامته من القصص والإسرائيليات(١)، ومنها اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم، ومنها عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية تحقيقا لوجوه الإعجاز، ومنها سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا..)(٢)
وقد فصل هذا المعنى حاجي خليفة في " كشف الظنون " مقررا أن ما تميز بن الزمخشري هو توفره على القدر الزائد على التفسير، من استخراج محاسن النكت والفقر، ولطائف المعاني التي تستعمل فيها الفكر، وبيان ما في القرءان من الأساليب لا يتهيأ إلا لمن برع في هذين العلمين، لأن لكل نوع أصولا وقواعد، ولا يدرك فن بقواعد فن آخر، والفقيه والمتكلم بمعزل عن أسرار البلاغة، وكذا النحوي واللغوي، وقد كان الصحابة يعرفون هذا المغزى بالسليقة، فكانوا يعرفون بالطبع وجوه بلاغته، كما كانوا يعرفون وجوه إعرابه، ولم يحتاجوا إلى بيان النوعين في ذلك، لأنه لم يكن يجهلهما أحد من أصحابه، فلما ذهب أرباب السليقة، وضع لكل من القواعد والبلاغة قواعد يدرك بها ما أدركه الأولون بالطبع، فكان حكم علم البيان والمعاني كحكم النحو.
(١). قد تقدم في الباب الثاني من هذا البحث أننا لا نوافق من حكم بسلامة تفسير الكشاف من القصص الباطلة والإسرائيليات.
(٢). عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرءان : ٢/٧٠

ـ أما فيما تعلق بالتفسير بالرأي فإن أهم جانب برز فيه تفوق الزمخشري وبز أقرانه هو جانب الكشف عن بلاغة القرءان ودلائل إعجازه عن طريق تطبيق نظرية النظم البلاغي، وتبين لنا أن نجاح الزمخشري في هذا الجانب لم يكن عفويا بل له أسبابه، منها توظيفه لهذه النظرية وهي في مرحلة لا تزال غضة طرية بعد ما أضفى عليها من مهارته اللغوية والأدبية ما زادها قبولا وتألقا. ومنها إفادته من التراث البلاغي والإنتاج التفسيري العريض عند المعتزلة في هذا الجانب، ومهما حاول الزمخشري أن يقلل من إحالاته على مصادره، وهو يتحدث عن وجوه الإعجاز القرآني وبلاغته، فإنه لا يستطيع أن ينفي أن جهوده هذه هي امتداد لجهود سلفه من المعتزلة، ثم من شاركهم من الأشاعرة، فقد قامت نظرية النظم ـ التي تبناها الزمخشري ـ في بدايتها على يد الجاحظ في شكل بسيط يعني حسن الصياغة وكمال الترتيب، وتلاؤم الألفاظ مفردة ومركبة في الكلام، ثم تطورت إلى شكل فني ممتاز، إذ أصبحت تعني الأسلوب بمعناه العام الشامل، الذي يراعي ما بين أجزاء الكلام من علاقات النحو وروابطه، فهي نظرية أبدعها الجاحظ، و أقام صرحها القاضي عبد الجبار، ووسعها وطورها عبد القاهر الأشعري، وطبقها الزمخشري، فنجح إلى حد بعيد في تطبيقها حتى كادت محاسنه في هذا الجانب أن تحجب مساوئه في الجوانب الأخرى، ومهما حاول أبو حيان أن يزاحم الزمخشري في الكشف عن إعجاز القرءان بما أضافه من جديد، فإن جهده هذا لم يرق إلى درجة منافسته في ذلك الفن، ومن هنا ظل الزمخشري كما قال السيوطي سلطان هذه الطريقة.


الصفحة التالية
Icon