علما بأن فكرة الموازنة بين خصائص الحركة العلمية وأعلامها في المشرق والمغرب ليست جديدة، بل نجد لها أثرا واضحا في كتابات المتقدمين، واستمرت عند المتأخرين، من ذلك مثلا ما نجده عند الفاضل بن عاشور في كتابه " التفسير ورجاله " حيث أجرى موازنة دقيقة ومركزة بين تفسير الزمخشري وهو من المشرق، وتفسير المحرر الوجيز لابن عطية وهو من المغرب(١). وعند عبد الوهاب فايد في كتابه منهج ابن عطية المفسر، حيث عقد بابا هاما في بحثه للموازنة بين ابن عطية كمفسر مغربي وبين مجموعة من المفسرين من المشرق.
سبب اختيار الموضوع :
ولذا اخترت أن تكون هذه الموازنة بين تفسير الكشاف الزمخشري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي لأسباب كثيرة منها :
أولا ـ ما كان لهما من مكانة مميزة بين كتب التفسير، فكان كل واحد منهما يستقطب مرحلة تاريخية مستقلة من مراحل التفسير.
فأما الكشاف فقد كان خاتمة المرحلة الثانية في تاريخ التفسير وهي مرحلة موصوفة بأصالة التفكير النحوي، وتنمية المرحلة الأولى والبناء عليها، كما تمتاز في مجموع رجالها بأصالة المنهج اللغوي في التفسير والتطور به إلى مداه على يد خاتمتها الإمام الزمخشري، وقد امتازت بكون أغلب رجالها هم أئمة النحو الذين كانت أقوالهم واجتهاداتهم في الدراسات النحوية هي معين رجال التفسير في المراحل اللاحقة، وفي ذلك يقول الفاضل بن عاشور :( وقد أتى في تفسيره ـ حقا ـ من مظاهر البراعة، وآيات العلم الواسع، والذوق الراسخ، والقلم والمتمرس ما زاده إعجابا به، بعد انتهائه منه، إذ قال في وصفه بيتين بديعين :
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
٣ ـ والزمخشري إذ يوظف عقله بقوة في فهم النص، يجعله لا يقنع بظاهر المعنى الذي لا يعد شيئا بجانب تدبره واستبطان معانيه، وفي ذلك يقول :( وتدبر الآيات : التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلو، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها )(١)
ومهما أطلق الزمخشري العنان لعقله في تدبر معاني القرآن، فإنه يعود أحيانا ليقرر قصوره عن فهم بعض آياته، فلا يسع العقل حينئذ إلا التسليم للحكمة الإلهية، لأن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لحكمة، فأحيانا تظهر لنا، وأحيانا تخفى عنا هذه الحكمة.
ففي تفسير قوله تعالى: " الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام.." سورة الفرقان: ٥٩
يقول :( وأما الداعي إلى هذا العدد ـ أعني الستة ـ دون سائر الأعداد فلا نشك أنه داعي حكمة، لعلمنا أنه لا يقدر تقديرا إلا بداعي حكمة، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي لمعرفته، ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر، وحملة العرش ثمانية، والشهور إثنا عشر، والسماوات سبعا والأرض مثل ذلك، والصلوات خمسا، وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك، والإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله وبأن ما قدره حق وصواب هو الإيمان، وقد نص عليه في قوله :" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض ماذا أراد الله بهذا مثلا..)(٢)
(٢). الكشاف : ٣/٢٨٨.
ولا يكتفي الزمخشري في عرض مواضع الخلاف بذكر آراء المذهبين، وما يتعلق به كل صاحب مذهب من دلالة الآية، بل يستطرد لذكر أدلة كل مذهب من السنة النبوية وأقوال السلف، مما يوحي بسعة أفق الزمخشري في مجال الفقه على أكثر من مذهب.
فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى :" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.. " سورة البقرة : ٢٢٧
قال الزمخشري :( تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم، وقيل معناه : الطلاق الرجعي مرتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث.. وعند أبي حنيفة وأصحابه الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه، لما روى في حديث ابن عمر أن رسول الله ـ ص ـ قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلقها لكل قرئ تطليقة. وعند الشافعي : لا بأس بإرسال الثلاث، لحديث العجلاني(١)الذي لاعن امرأته، فطلقها ثلاثا بين يدي رسول الله ـ ص ـ فلم ينكر عليه. )(٢)
وربما اكتفى الزمخشري بذكر رأي المذهب الحنفي في الآية، مع نقل الخلاف بين أئمة المذهب الواحد إذا كان يرى ذلك يغطي ما اشتملت عليه الآية، مثلما جاء في تفسير قوله تعالى :".. فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن.. " سورة البقرة : ٢٢٠
(٢). الكشاف : ١/٢٧٣
أما الزمخشري فإنه وأن لم ينبه على أهمية التفسير بالمأثور بنص صريح، فإنه أخذ به في بعض المواضع، وسكت عنه في مواضع أخرى.
وهو في ذلك يقلل من المأثور في الآيات التي يرى فيها ما يخالف مذهبه، ويتوسع في الأخذ به في الآيات التي لا يرى فيها موضعا للنزاع مع خصومه أو لا يرى فيها ما يصادم مذهبه، فيورد في الآية الواحدة من هذا النوع ما يفسرها من القرآن والسنة وأقوال السلف في آن واحد، ثم يوجه الآية في ضوء تلك الآثار.
ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا.." سورة المائدة : ١٠٥
فقول أبي حيان "وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق " معناه أن الزمخشري قد نسج رأيه هذا من آراء متعددة، دون أن ينسب كل رأي لصاحبه.
وربما كانت مثل هذه الأحكام قاسية في حق الزمخشري في هذا الجانب، وإلا كيف يكون سارقا في مثل هذه المواضع، وقد شهد له أهل التراجم ـ ممن كانوا أقرب إلى عصره زمنيا ـ بالإمامة والتفوق، فقال فيه ابن خلكان :( الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، كان إمام عصره غير مدافع..)(١)
كما قال فيه القفطي :( وهو ممن يضرب به المثل في علم النحو واللغة )(٢)
فالزمخشري لم يكن مجرد ناقل أو ملخص لكتاب سابق مثلما درج عليه بعض المفسرين من جمع، أو تلخيص، أو تهذيب لكتب السابقين، بل كان مطلعا على آراء وأقوال السابقين ومستوعبا لها، ولا يتخير منها إلا ما كان متجها إلى المعنى الذي يراه في الآية، ومتفقا مع الأسس الفكرية والمنهجية التي أراد أن يبني عليها تفسيره، ولم يلزم نفسه الرد على ما شاع في كتب التفسير من آراء كان يراها بعيدة عن الصواب، أو بعيدة عن المعنى الذي يلوح من الآية، وهذا خلافا لأبي حيان الذي كان يتتبع الآراء النحوية عند من سبقه من المفسرين، ويفيض في تحليلها وتوجيهها أو نقدها، ولكن مع ربط كل ذلك بما يخدم المعنى الذي يدل عليه النص القرآني.
(٢). القفطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة : ٣/٢٦٥
ولكن هذا لا يعني أن الفوارق بين العلوم الثلاثة كانت واضحة تماما في ذهن الزمخشري وهو يتحدث عنها(١)، بل قد اختلطت هذه العلوم عنده في أكثر من موضع، فهو مثلا في معرض تفسيره لقوله تعالى :" أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى.."(٢)يقول :( إذا قيل : فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة ؟ قلت هذا من الصنعة البديعية التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا..)(٣)
فقد أدخل المجاز في الصنعة البديعية، ومن هنا يرى بعضهم ـ نقلا عن السيد الشريف ـ أن الزمخشري لم يكن يعد البديع علما مستقلا، بل كان يراه ذيلا لعلمي المعاني والبيان. )(٤)
فالزمخشري وإن كان قد قام بأول محاولة لقسمة البلاغة إلى علومها الثلاثة، إلا أنه لم يضع الحد الفاصل بين موضوعات كل علم، بل كانت القسمة الثلاثية بصفة إجمالية موجودة في ذهنه، فمضى في تطبيقها على تفسيره للقرآن الكريم، وقد أفلح في ذلك إلا في مواضع قليلة(٥).
كما تمثل جهد الزمخشري من جهة أخرى في الجانب التطبيقي لعلوم البلاغة ( حيث طبق جميع قواعد علمي المعاني والبيان التي اهتدى إليها عبد القاهر، متخذا نصوص القرآن كاملة كأمثلة وشواهد على ذلك.)(٦)
(٢). سورة البقرة : ١٥
(٣). الكشاف : ١/٧٠
(٤). البلاغة تطور وتاريخ : ٢٢٢
(٥). انظر : التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة بتصرف : ٢٤٢
(٦) مجلة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، العدد : ٦، السنة : ١٩٩٩م، مقال : الإتجاه اللغوي في تفسير القرءان : د. سامي عبد الله الكناني ص : ٥٢
ولما كان كتاب الكشاف هو الكافل في هذا الفن، اشتهر في الآفاق، واعتنى الأئمة المحققون بالكتابة عليه، فمن مميز لاعتزال حاد فيه عن صوب الصواب، ، ومن مناقش له فيما أتى به من وجوه الاعراب، ومن محشَ وضَح ونقح، واستشكل وأجاب، ومن مخرج لأحاديثه، عزا وأسند وصحح وانتقد، ومن مختصر لخص وأوجز.)(١)
كما ينبغي أن لا نغفل سببا آخر من أسباب رواج كشاف الزمخشري، وهو اختفاء تفاسير المعتزلة على كثرتها، فلم يبق بين أيدينا تفسير كامل للقرآن ينسب لإمام من أئمة هذه الفرقة التي كان لها أثر واضح وبارز في تاريخ الفكر الإسلامي، حتى صار دارس الفكر الاعتزالي لا يكاد يجد بين يديه في مجال التفسير كتاب شامل لتفسير كل آي القرءان سوى هذا الكتاب، ليطلع من خلاله على آراء المعتزلة، فيتعين عليه الرجوع إليه ليعرف آراءهم من مصادرهم.
ـ أما في الجوانب الأخرى من التفسير بالرأي كجانب اللغة والنحو والقراءات وغيرها مما بسطنا القول فيه سابقا، فقد استطاع أبو حيان أن يقدم دراسة نقدية شاملة للكشاف بما لم يسبق إليه، وبذلك وضع تفسير الكشاف في حجمه الحقيقي، وغير من نظرة الدارسين إليه، وأحدث بذلك نشاطا علميا ملحوظا تجلى في تلك الدراسات التي انصبت حول الموازنة بين هذين التفسيرين، حتى أصبحت تمثل حلقة مستقلة في تاريخ التأليف في التفسير، وصار إسم الزمخشري وتفسيره لا يذكر في الغالب إلا مقرونا باسم أبي حيان وتفسيره البحر المحيط.
ـ وإذا كانت فصول هذا البحث قد تجلى من خلالها تفوق تفسير البحر المحيط على تفسير الكشاف في أغلب الجوانب، مع بقاء كشاف الزمخشري في الصدارة، فإن هذا يجعلنا نميل إلى ما قاله صاحب كشف الظنون بأن سر اشتهار تفسير الكشاف هو القدر الزائد على التفسير، وهو ما تؤكده مقالة ابن خلدون والسيوطي والزرقاني فيما سبق ذكره، وبذلك يتجلى أن عامل الشهرة والانتشار لكتاب ما في التفسير لا يكون كافيا للحكم على حجم القيمة العلمية لذلك الكتاب في تفسير القرءان الكريم، وذلك بعد أن امتزجت كتب التفسير بخليط كثيف من العلوم العقلية، وصارت هذه العلوم مقصدا أساسيا من مقاصد المفسر، بل ربما كانت صارفا لاهتمام المفسر عن النظر في جوانب العظة ومواضع العبرة من كتاب الله تعالى، واستحوذت عليه الاستطرادات المناسبة لتلك الإشارات القرءانية التي تتصل ببعض العلوم العقلية، فأنفق فيها جهده وسود بها أغلب صفحات كتابه، حتى أصبح ما هو من التفسير قليلا بل نشازا إلى جانب ما هو ليس من التفسير، ولقد قيل قديما في كتاب مفاتيح الغيب للفخر الرازي " فيه كل شيء إلا التفسير ".