فأصبح كتابه عمدة الناس على اختلافهم، بين مشايع له ومخالف، وعلى وفرة مخالفيه، وانقطاع مشايعيه يرجعون إليه على أنه نسيج وحده في طريقته البلاغية الإعجازية، وفي غوصه على دقائق المعاني وحسن إبرازها على طريقة علمية سائغة، بتحليل تراكيبه وعباراته وإبراز خصائصه، وعلى ما يكثر صاحب الكشاف من عنف على مخالفيه، وما يتناوله به خصوصا أهل السنة والجماعة من قدح وشتم وسب وتجهيل، فإن ما جبل عليه أهل السنة وقامت عليه طريقتهم العلمية من الإنصاف، قد حملهم على الإغضاء على تلك الهفوات المخجلة والعورات الفاضحة، فأقبلوا على دراسته وشرحه، وبنوا عليه عامة بحوثهم في القرءان، لا يخلو تفسير أو تأليف في موضوع قرءاني من رجوع إليه، واعتماد عليه. )(١)
أما تفسير البحر المحيط هو الآخر فلم يكن مجرد تفسير بارز في مرحلة من مراحل التفسير، بل كان يمثل مرحلة مستقلة بنفسه لما أحدثه من مراجعات هامة في كتب التفسير بصفة عامة، ولمواقفه النقدية من كشاف الزمخشري، وما تبعها من نشاط علمي جديد كامتداد لرؤيته المستقلة تجاه كثير من كتب التفسير.
ثانيا : أن كل من كتب عن الكشاف ممن سبق أبا حيان، إنما كان يتناوله من جانب واحد، وأغلب ما كتب في ذلك هو ما تعلق بالتنبيه على اعتزالاته، حتى جاء أبو حيان الأندلسي فتناول هذا الكتاب من مختلف جوانبه، ومحصه تمحيصا تميز بكثير من الموضوعية، لأن أبا حيان قد جمع بين الإعجاب به في جوانب، والاختلاف معه في جوانب أخرى، فكان ينبه على جوانب الحسن والتوفيق ويدافع عنها، مثلما ينبه على مكامن الضعف والإخفاق فيردها في أغلب الأحيان بأسلوب علمي رصين.
ثالثا : محاولة البحث في سر اشتهار تفسير الكشاف بهذه الدرجة المعروفة، ولقد بلغت درجة شهرته في حقبة معينة من تاريخ التفسير أن شغل الناس عن تفاسير المتقدمين، وكاد يصدق فيه قول الشاعر :
ومع تسليم الزمخشري بعجز العقل أحيانا عن استبطان بعض نصوص القرآن، ووقوفه مندهشا أمام روعة إعجازه، وخفاء الحكمة الإلهية في كثير من الأحكام والأوامر والنواهي والأخبار في كتابه، فإنه كثيرا ما يطلق العنان لعقله ليحلق في أجواء بعض النصوص من غير ضابط، فيقع في محاذير مذمومة.
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " سورة التوبة : ٤٣
قال الزمخشري :( كناية عن عن الجناية، لأن العفو رادف لها، ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت.)(١)
وفي تفسير قوله تعالى :" قال يا نوح إنه ليس من اهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين " سورة هود : ٤٦
قال الزمخشري :( وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.)(٢)
(٢). الكشاف : ٢/٤٠٠
حيث اقتصر على نقل الخلاف بين أئمة الحنفية في القدر الذي يجب اعتزاله من المرأة الحائض، فقال :(.. وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال، فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب اعتزال إلا الفرج، وروى محمد حديث عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عمر سألها : هل يباشر الرجل امراته وهي حائض ؟ فقالت(١): تشد إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن شاء، وما روي زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي ـ ص ـ ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال(٢): " لتشد عليها إزارها، ثم شأنك وأعلاها." )(٣)
وفي بعض الأحيان نجد الزمخشري يوجه معنى الآية على رأي فقهي معين دون ذكر لآراء المخالفين، فحيثما اكتفى برأي واحد في الآية، فهو رأي مذهبه الحنفي وإن لم يصرح به، وهذا ما كان ينبه عليه أبو حيان أحيانا في البحر المحيط.
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى :" فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة.." سورة النساء : ٢٤
حيث قال الزمخشري :( فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه، )(٤)انتهى. قال أبو حيان :( وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة، إذ هو مذهبه، وقد فسر ابن عباس الاستمتاع هنا بالوطء، لأن إيتاء الأجر كاملا لا يترتب إلا عليه، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك. )(٥)
(٢). رواه مالك في الموطإ، كتاب الطهارة، باب ما يحل للرجل من امراته وهي حائض، رقم : ٩٨
(٣). الكشاف : ١/٢٦٥
(٤). الكشاف : ١/٤٩٧
(٥). البحر المحيط : ٣/٢١٨
قال الزمخشري :( كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم :" عليكم أنفسكم " وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى كما قال تعالى :" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات "(١)وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم و مناكيرهم. فهو مخاطب به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه، وعن ابن مسعود أنها قرئت عنده فقال : إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم، فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه. وعنه : ليس هذا زمان تأويلها، قيل فمتى ؟ قال : إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن. وعن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله ـ ﷺ ـ عنها فقال(٢): ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك ودع أمر العوام، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله.)(٣)
(٢). أبو داود، في السنن من تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، لبنان، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، حديث رقم : ٤٣٤١، والترمذي، السنن، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ١٩٨٠م كتاب التفسير، سورة المائدة، رقم : ٥٠٥١
(٣). الكشاف : ١/٦٨٥
٢ ـ وكان الزمخشري بصري المذهب في النحو، حيث نشأ على دراسة النحو البصري، فتعلق به وخدمه، وألف كتابا في شرح أبيات سيبويه، وهو أمر ليس بالهين، فكان الزمخشري يفتخر به، بل ويتوسل به عند الوزراء والسلاطين لنيل مكانة تليق بحاله مثلما فعل مع نظام الملك(١)، وقد تجلت بصريته بوضوح في تفسيره، سواء من حيث المصطلحات التي يرددها، أو الأحكام النحوية التي ينتصر لها، أو من حيث تصريحه بأسماء أئمة النحو البصريين الذين كان ينقل عنهم ـ وإن كان هذا التصريح قليلا جدا ـ وفي مقدمتهم سيبويه، والزجاج، وابن جني وغيرهم، ويتضح هذا من خلال النماذج الآتية :
في تفسير قوله تعالى :" وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون " سورة الأعراف : ٣
أعربت فيه الجملة الثانية الإسمية حالا، ولم تذكر معها واو الحال، فقال الفراء الواو محذوفة، ورده الزجاج مكتفيا بوجود الضمير، أما الزمخشري فقال : إن " أو " العاطفة على حال تغني عن ذكر واو الحال استثقالا لاجتماع حرفي عطف. قال " ( فإن قلت : لا يقال : جاءني زيد هو فارس بغير واو، فما بال قوله "هم قائلون " ؟ قلت قدر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال :: لو قلت : جاءني راجلا أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول، ثم قال الزمخشري : والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك : جاءني زيد راجلا أو هو فارس كلام فصيح وارد على حده، وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث.)(٢)
فالزمخشري هنا ليس مجرد ناقل، بل يذهب إلى جعل نفسه حكما بين الفراء والزجاج، ليخرج برأي يعبر عن اجتهاده وقناعته.
(٢). الكشاف : ٢/٨٧
وهكذا كان كتاب " الكشاف " بصورته التي وصل عليها يمثل قمة مرتفعة سامية في ازدهار الدراسة البلاغية، ليس عند المعتزلة الذين نتحدث عنهم فقط، بل في مجال الدراسات البلاغية عامة، ففي هذا الكتاب عصارة مجهودات السابقين جميعا من معتزلة وغيرهم، وزبدة ما تمخضت عنه أذهان البلاغيين العرب الذين تقدموه، والجدير بالذكر أن الزمخشري قد ابتدأ من حيث انتهى السابقون ـ وهذه حسنة له ـ فهو لم يدرس البلاغة دراسة نظرية، ولم يكتب عنها كتابة مستقلة، ولكنه راح بما أوتي من ذوق أدبي مرهف، وحس فني صادق، يطبق ما قرأه عن البلاغة في تفسيره للقرآن آية آية، كاشفا عن الأسرار والدقائق والنكت البلاغية التي اشتمل عليها الذكر الحكيم. كما أن دراسة إعجاز القرآن في ضوء القواعد البلاغية كانت عند من سبقه إما دراسة جزئية لا تتحدث إلى على أمثلة ونمادج قليلة من القرآن، أو دراسة نظرية تحاول أن تضع مبادئ وأصولا، وتحدد معالم بارزة يمكن أن تتخذ مقياسا في دراسة الإعجاز القرآني. فالجاحظ مثلا لم يتوقف إلا عند بعض الآيات، وانشغل القاضي عبد الجبار والشريف المرتضى بالآيات المتشابهات التي يخالف ظواهرها أصول الإعتزال. وانتهى الأمر إلى الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي يعد قمة ما وصلت إليه الدراسات البلاغية، ووضع في ذلك نظرية أطال في شرحها والحديث عنها حتى أصبحت تعرف به، وكان يكتفي بإيراد النمادج القليلة في معرض تقرير القاعدة التي يضعها ليحدد المعالم التي يسير عليها من يأتون بعده.
وثمة عامل آخر بالغ الأهمية في أسباب شهرة كشاف الزمخشري وانتشاره، وقد سكت عنه أغلب الدارسين، وهو الصلة التاريخية والفكرية بين المعتزلة والشيعة أولا(١)، وصلة الزمخشري بالشيعة الزيدية عند مجاورته بمكة ثانيا(٢)، حيث كان لهم دور بارز في خدمة هذا التفسير والترويج له بعدئذ، ذلك أن مذهب الزيدية الكلامي هو الاعتزال، ولا يختلف الزيدية عن المعتزلة في الأصول إلا في مسألة الإمامة(٣)ـ وهي مسألة فقهية ـ وقد توثقت هذه الصلة بين الزمخشري وفكر الشيعة الزيدية عن طريق شيخه المفسر الحاكم الجشمي الذي كان يؤكد على هذه الصلة القديمة بين المعتزلة والزيدية، قال الحاكم :( ومن أصحابنا البغدادية من يقول " نحن الزيدية " لأنهم كانوا مع أئمة الزيدية والمبايعين لهم والمجاهدين تحت رايتهم، ولاختلاطهم قديما وحديثا، ولاتفاقهم في المذهب )(٤)وقد ارتقى أيضا بسند المعتزلة من شيوخه حتى انتهى به إلى علي بن أبي طالب وقال :( لا شبهة أن المعتزلة هم الشيعة لاتباعهم أمير المؤمنين وأهل بيته في كل عصر وحين، واتفاقهم في مذاهبهم. )(٥)
(٢). وهو ما نبه عليه أبو حيان نفسه في تفسير قوله تعالى :".. قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " سورة البقرة : ٢٣. حيث استطرد الزمخشري للنيل من خلفاء بني أمية والانتصار لبعض أئمة الزيدية، فنقل أبو حيان كلامه ثم علق عليه بقوله :( وإنما ذكره الزمخشري لأنه كان بمكة مجاورا للزيدية ومصاحبا لهم، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم.. ) البحر المحيط : ١/٣٧٨
(٣). الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير : ٨٤. نقلا عن شرح العيون مخ. ورقة ١/٢٣.
(٤). الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرءان، نقلا عن شرح العيون، ورقة ١/٥٠
(٥).. المصدر نفسه : ١/٥٠
ومنذ أن امتزجت كتب التفسير بهذه الألوان من العلوم العقلية، وما فتئت هذه العلوم تطغى وتتسع، وما هو من التفسير يضيق ويختصر حتى اختلت موازين الحكم على كتب التفسير في كثير من الأحيان، فنجد عددا من كتب التفسير كان حقها التقديم قد أخرت وربما هجرت، وكتبا أخرى كان حقها التأخير، أو على الأقل التمحيص والتقويم، قد قدمت ونالت من الشهرة والرفعة ما ينزهها ويحميها من أصابع النقد والإتهام.
ـ وفي الختام أقول لقد خرجت من هذا البحث وأنا أشعر بحاجة ملحة للقيام بمراجعة جادة وواسعة في كتب التفسير، وإقامة دراسة تقويمية لها من هذا الجانب لفصل ما هو من التفسير عما هو ليس منه، ليتيسر لأهل العلم معرفة القيمة العلمية لكل مصنف في هذا الفن، والإفادة منه على أسس سليمة.
وأحسب أن قناعتي هذه تلتقي مع ما ذهب إليه محمد رشيد رضا في تفسير المنار، حيث أحس بهذا وهو يستطرد إلى مباحث جانبية مختلفة في كتابه مما قد يفيد القارئ من جهة، ويكون صارفا له عن تحصيل ما هو من التفسير من جهة أخرى، ولذلك أوصى في مقدمة كتابه " تفسير المنار" أن تقرأ هذه المباحث المفيدة في غير الوقت الذي يقرأ فيها تفسير كتاب الله تعالى على اعتبار أنها مباحث إضافية يلج القارئ من خلالها إلى فهم هدايات القرءان وحكمته العالية، ولكنها ليست هي عين تفسير كلام الله تعالى، لأن أغلب هذه العلوم العقلية نسبية، وخاضعة لقانون النشوء والارتقاء، كما أنها مما يخفى على أفهام العامة، وكتاب الله تعالى منزه عن ذلك كله.
كما تجلى لي بعد طول البحث أن تفسير الكشاف وأثره فيمن جاء بعده من المفسرين يرقى ليكون مشروع بحث علمي مستقل جليل الفائدة، وكذلك القول في تفسير البحر المحيط.