ص : ١٠٤
جزيرة العرب لكان الحال غير ما ترى اليوم، فإنّ المنع من أن يبقى في جزيرة العرب دينان إنما كان اجتثاثا لبذور الفتن، وأشد الفتن خطرا ما يكون في قواعد الملك.
أما قوله : وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فالمعنى : أن يكون اللّه هو المعبود وحده، وكأنّ المعنى : وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى : تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح : ١٦].
فَإِنِ انْتَهَوْا عما أوجب قتالهم فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون المعنى :
فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنّهم بإصرارهم على الكفر ظالمون لأنفسهم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان : ١٣].
ولما كان القتل هنا جزاء العدوان صحّ إطلاق اسم العدوان عليه، كما قال :
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.
ويحتمل أن يكون المعنى : أنهم إن انتهوا، واعتديتم عليهم بعد ذلك : كنتم ظالمين، فنسلط عليكم من يعتدي عليكم، ويكون المعنى طلب الكف عنهم بعد انتهائهم.
قال اللّه تعالى : الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤).
روي عن ابن عباس، والربيع بن أنس ومجاهد وقتادة والضحّاك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج عام الحديبية للعمرة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فصدّه أهل مكة عن ذلك، ثم صالحوه على أن ينصرف، ويعود في العام القابل، حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في العام القابل : وهو في ذي القعدة سنة سبع، ودخل مكة واعتمر، فأنزل اللّه هذه الآية «١».
والمعنى : أنهم صدّوك في العام الفائت في هذا الشهر. فمنّ اللّه عليكم بالدخول إليها في هذا الشهر من هذا العام، فهذا الشهر بذاك الشهر.
وروي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن اللّه تعالى نهى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقاتل في الأشهر الحرم، فأرادوا مقاتلته، لظنهم أنه يمتنع عن المقاتلة في هذه الأشهر الحرم، وذلك قوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ
فأنزل اللّه هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة، فقال :
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ «٢» أي من استحل دمكم في الشهر الحرام فاستحلوا دمه فيه.
(٢) انظر ما ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (١/ ٢٦١)، والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (٢/ ٣٣٣).