ص : ١٩٢ وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو، وإليه ذهب بعض المالكية، وقالت الحنفية والشافعية بالجواز، وأنه يسهم لهم في الغنيمة، لكن بشرط أن تكون الاستعانة على قتال المشركين لا البغاة، وما ورد عن عائشة رضي اللّه عنها من رد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لرجل مشرك كان ذا جرأة ونجدة أراد أن يحارب مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدر وقال له :«ارجع فلن أستعين بمشرك» «١»
فمنسوخ، بدليل استعانته صلّى اللّه عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم، واستعانته بصفوان بن أمية في هوازن «٢».
وذكر بعضهم أنّ جواز الاستعانة مشروط بالحاجة والوثوق، أما بغيرهما فلا يجوز، وهو الراجح. وعلى ذلك يحمل خبر السيدة عائشة، وما كان من السبب الثاني للنزول، ويحصل به أيضا الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز.
ومن الناس من استدلّ بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمّالا ولا خدما، ولا يجوز التعظيم والتوقير لهم في المجالس، والقيام عند قدومهم، فإنّ دلالته على التعظيم واضحة قوية.
وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التقيّة، وعرّفوها : بالمحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.
ولما كان العدوّ نوعين : عدوا كان الاختلاف في الدين سببا لعدوانه، والثاني ما ثبتت عداوته على الأغراض الدنيوية كالمال والمتاع والإمارة، كانت التقية قسمين :
أما القسم الأول : فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه، فهذا تجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه، بشرط ألا يكون من الصبيان أو النساء أو العجزة، فهؤلاء قد رخّص اللّه تعالى لهم فقال : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) [النساء : ٩٧، ٩٨].
فإن كان من المستضعفين : وكان التخويف بالقتل ونحوه ممن يظنّ منهم أنهم يفعلون ما خوّفوا به، جاز المكث والموافقة ظاهرا بقدر الضرورة، مع السعي في حيلة للخروج والفرار بدينه.
والموافقة حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد قطعا،
(٢) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٢٨٥)، كتاب البيوع، باب تضمين العارية حديث رقم (٣٥٦٢) وأحمد في المسند (٤/ ٢٢٢).