ص : ٢١٢
بطريق النكاح، ويشهد له أن الظاهر اتحاد المخاطبين في المعطوف والمعطوف عليه في قوله تعالى : فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وعليه يكون الذي خيّر بين الحرة الواحدة والعدد من الإماء هو مالك الإماء لا غير، ولو كان التخيير واقعا بين أن يتزوج حرّة واحدة، أو يتزوج من شاء من الإماء اللاتي يملكهنّ لاقتضى ذلك ورود النكاح على ملك اليمين.
وقد قالوا : لا يجوز أن يتزوّج المولى أمته، ولا المولاة عبدها، لأنّ للزوجية لوازم تنافي لوازم ملك اليمين، ألا ترى أنّ من لوازم الزوجية حقّ الإخدام على الزوج لزوجته، ومن لوازم الملك حق الاستخدام عليها لسيدها ولمن شاء، ومعلوم أن الإخدام والاستخدام لا يجتمعان - وأنه متى تنافت اللوازم تنافت الملزومات، فلا يجتمع ملك اليمين والزوجية، والآية هنا جارية في الخطاب على خلاف ما جرت عليه الآية الآتية، وهي قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء : ٢٥] فإن المأمورين بالنكاح هنا غير المخاطبين بملك اليمين.
وذلك ظاهر بشهادة قوله : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ وقوله بعد : فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النساء : ٢٥] وسيأتي عما قريب إيضاح ذلك إن شاء اللّه.
وقد حاول الجصاص «١» الاستدلال بقوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ على جواز التزوّج بالأمة مع وجود الطول إلى الحرة، وسلك بالآية طريقا لم يرتضه جمهور المفسرين.
وذلك أنه يرى أنّ قوله تعالى : أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ معطوف على كلمة النِّساءِ في قوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وبذلك يكون التخيير واقعا بين أربع حرائر وأربع إماء : بعقد النكاح، فيوجب ذلك تخييره بين تزوج الحرة والأمة، وهذا بعيد كل البعد كما ترى.
ويرى أيضا عدم اتحاد المخاطبين في قوله تعالى : فَانْكِحُوا وقوله تعالى : فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال : لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير، كقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلخ، وقد علمت ما فيه آنفا.
ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الإشارة إلى اختيار الواحدة والتسرّي.
أَدْنى معناه أقرب. والعول في الأصل الميل المحسوس، يقال : عال الميزان عولا إذا مال، ثم نقل إلى الميل المعنوي، وهو الجور، يقال عال الحاكم إذا جار، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل، المعنى أن ما ذكر من اختيار الواحدة

(١) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٢/ ١٥٧).


الصفحة التالية
Icon