ص : ٢٧
أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها، وكلّما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها.
ولو جهد الخلق كلّهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها، ظهر عجزهم عنها.
ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنما هي ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، وما يظهر منها على غير حقيقتها، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ويأتي بمثل ما أظهره سواه «١» ا. ه.
ولنرجع إلى تفسير الآية :
وَاتَّبَعُوا أي اليهود، قيل : الذين كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وقيل : الذين في زمن سليمان عليه السلام، وقيل : أعم، لأنّ متبعي السحر من اليهود لم يزالوا من عهد سليمان إلى أن بعث اللّه نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم.
فأخبر اللّه عن اليهود أنهم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي تقرأ وتخبر عن ملك سليمان، قيل : على عهده، وقيل تكذب عليه، لأن الخبر إذا كان كذبا قيل : تلا عليه، وإن كان صادقا قيل : تلا عنه.
وكان كذبهم عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أنهم كانوا يزعمون أنّ سليمان كان ساحرا، وأنه ما سخّرت له الجن إلا بسحره.
قال محمد بن إسحاق : قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا؟ واللّه ما كان إلا ساحرا! فأنزل اللّه تعالى : وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.
والمراد بالشياطين شياطين الإنس والجن، وقد برأ اللّه سليمان مما قذفوه به من السحر. فقال :
وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا بنسبة السحر إلى سليمان على وجه الكذب وجحدهم نبوته، ثم وصف الشياطين بقوله : يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ على وجه الإضرار، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ.
قيل : هو عطف على ما تتلو الشياطين، أي اتبعوا هذا وذاك. وقد علم من هذا أن السحر أنزل على الملكين ببابل، وقد أنزله اللّه عليهما ليعرّفاه الناس، فيتحرّزوا من ضرره، لأن تعريف الشر حسن، ومعه يصحّ الاحتراز. وقد كان أهل بابل قوما صابئين، يعبدون الكواكب، ويسمّونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وكانت علومهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانت لهم رقىّ بالنبطية،