ص : ٣٨
وعلى التقديرين الأولين المراد توصية المسلمين بالثقة بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، وترك الاقتراح بعد رد ظن المشركين واليهود في النسخ، فكأنه قيل : لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن كاليهود في ترك الثقة بالآيات البينات، واقتراح غيرها، فتضلّوا، وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنّهم بصدد الإرادة، فنهوا عنها، فضلا عن السؤال.
هذا وقد ذكر بعض المفسرين «١» أنّ الصحابة اقترحوا على الرسول أشياء بعينها
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«سبحان اللّه! هذا كما قال قوم موسى : اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف : ١٣٨] والذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من قبلكم...» الحديث «٢».
زعم بعضهم أن الخطاب فيها لليهود، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزّل عليهم كتاب من السماء جملة كما نزلت التوراة على موسى جملة، ويكون الفعل المضارع مرادا منه الماضي. واختاره الإمام الرازي. قال : إنه الأصح. لأن السورة من أول قوله :
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة : ٤٠] حكاية عن اليهود، ومحاجّة معهم، ولأنّ المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الكفر بالإيمان.
وذهب قوم إلى أنها نزلت في أهل مكة، حين سألوا المصطفى أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يوسّع لهم أرض مكة، وأن يفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، ولا مانع من جعل الكل أسبابا.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كليّ أخرجت مخرج النهي جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله : أَمْ تُرِيدُونَ.
و(سواء) بمعنى وسط أو مستو، والإضافة من إضافة الصفة للموصوف، والباء داخلة على العوض المتروك، نظيرها في قوله تعالى : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة : ٦١].
وحاصل الآية : أن من يترك الثقة بالآيات البينات المنزلة بحسب المصالح، التي من جملتها الآيات الناسخات، التي ما جاءت إلا لمحض الخير، واقتراح غيرها، فقد حاد من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم، الموصل إلى معالم الحق والهدى.
هذا وقد زعم بعضهم أن (آية) في قوله تعالى : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ لا يراد منها
(٢) رواه البخاري في الصحيح، ٩٦ - كتاب الاعتصام، ١٠ - باب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حديث رقم (٧٣١٩).