ص : ٣٩
الآية القرآنية، بل المراد المعجزات الدّالّة على صدق الرسل، حيث يبدّل اللّه معجزة الرسول السابق بالمعجزة التي يأتي بها الرسول الذي بعده، وإنما لجأ إلى ذلك فرارا من تفسير الإنساء ونحوه، وتمشيا كما يزعم مع قوله : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن علم ما ذكروه في أسباب النزول من أن الآية جاءت للتمهيد في تحويل القبلة، ونسخ التوجه إليها بالتوجه إلى الكعبة : علم أنه لا داعي إلى ما زعمه.
قال اللّه تعالى : قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
اختلف العلماء في نزول هذه الآية، فقال قوم : هي متقدمة في النزول على قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة : ١٤٢] وهو
مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه، ويؤيده ما رواه البخاري «١» عن البراء بن عازب قال : قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل اللّه تعالى : قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. فقال السفهاء من الناس، وهم اليهود : ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
وذهب الزمخشري «٢» وغيره إلى أنّ هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ... ويكون قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مستقبلا أريد به الإخبار بمغيّب يكون من اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة، ليكون ذلك معجزا بما فيه من الإخبار بالغيب، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيرا منه عند المفاجأة، وليكون الجواب حاضرا للرد عليهم عند ذلك، وهو قوله تعالى : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى تردّد وجهك في جهة السماء متشوّقا للوحي، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لما أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا، ولأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأدعى إلى إيمان العرب.
والظاهر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره، وفي ذلك : دلالة على كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، وقال

(١) سيأتي تخريجه لا حقا.
(٢) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (١/ ٩٨).


الصفحة التالية
Icon