ص : ٤٠
قتادة «١» والسدي وغيرهما : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقلب وجهه في الدعاء إلى اللّه أن يحوّله إلى الكعبة، وعلى هذا يكون السؤال واقعا، وإنما لم يذكر، لأنّ تقلّب الوجه نحو السماء وهي قبلة الدعاء يشير إليه.
ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدّعاء، لما أن الأنبياء لا يسألون اللّه تعالى شيئا من غير أن يأذن لهم فيه. وقد ورد في بعض الآثار أنه صلّى اللّه عليه وسلّم استأذن جبريل في أن يدعو اللّه، فأخبره جبريل أن اللّه قد أذن له، على أنه لا مانع من السؤال ابتداء لمصلحة ألهمها، ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان والإذان.
وليس في الآية ما يدل صريحا على أنه سأل أو لم يسأل، وقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» «٢» عن البراء بن عازب قال : صلينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم أظهر اللّه علمه برغبة نبيه عليه الصلاة والسلام، فنزلت الآية قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ وقد يفهم من هذا أن السؤال لم يقع.
قال الزمخشري «٣» : إنّ (قد) هنا بمعنى (ربما) وهي للتكثير، وقال أبو حيان «٤» :
بل التكثير مستفاد من لفظ التقلّب، لأنه مطاوع التقليب، ومن نظر مرة أو ردد بصره مرتين أو ثلاثا لا يقال : إنه قلب، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير. و(نرى) هنا بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، ومنه قوله :
قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور : ٦٤] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر : ٩٧] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب : ١٨] والمعنى قد رأينا إلخ.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكنّنك من استقبالها، من قولك : وليته كذا إذا جعلته واليا له، والفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها.
تَرْضاها تحبها، وتميل إليها لأغراض صحيحة أضمرتها في نفسك تريد بها أن يجتمع الناس على قبلة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويكون من وراء ذلك خير عظيم.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الفاء لتفريع الأمر على الوعد السابق، والمعنى : فاصرف وجهك شطر المسجد الحرام، وإنما فسّرنا التولية هنا بمعنى الصرف، لأنّها بالمعنى السابق تكون متعدية إلى مفعولين، وهي هنا معدّاة إلى واحد.
(٢) رواه البخاري في الصحيح (١/ ١٨)، ٢ - كتاب الإيمان، ٣١ - باب الصلاة حديث رقم (٤٠)، ومسلم في الصحيح (١/ ٣٧٤)، ٥ - كتاب المساجد، ٢ - باب تحويل القبلة حديث رقم (١١/ ٥٢٥).
(٣) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في محاسن التأويل للزمخشري (١/ ٢٠١).
(٤) في تفسيره البحر المحيط (١/ ٤٢٧).