ص : ٤٤٥
وقوله تعالى : ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ إلخ النفي في مثله يسمّى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل، لأنّه نفي له بالدليل، والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على عبادة اللّه فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة، وهي خاصّة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكلّ ذلك مراد هنا، لأنّ اللفظ يدل عليه، والمقام يقتضيه. والمختار عند الحنفية استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.
وقوله : مَساجِدَ اللَّهِ قرئ بالإفراد، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام، لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل.
ومن قرأ بالجمع فإما أن يراد جميع المساجد، فيشمل المسجد الحرام أيضا، الذي هو أشرفها، وهذا آكد، لأنّ طريقه طريق الكناية، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب اللّه كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
وإما أن يراد المسجد الحرام، وجمع لأنه قبلة المساجد، أو لأن كل بقعة منه مسجد.
وقوله : شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبين لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر : قيل إنها بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل : بقولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وقيل : بقولهم كفرنا بما جاء به محمد.
والظاهر شمول الشهادة لذلك كله.
والمعنى : ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه اللّه منهم أو يقرهم عليه، أن يعمروا مسجد اللّه الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم كافرين، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا، لأنّ هذا جمع بين الضدين، فإنّ عمارة مساجد اللّه الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية، بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له، وذلك ضد الكفر به.
وهاهنا مسألتان :
الأولى : هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد، أو لا يجوز، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة، قيل بالثاني، وفيه نظر، لأنّ الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا.
وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن.