ص : ٤٨
والكتمان : ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره، لأنّه ما لم يكن كذلك لا يعدّ كتمانا.
ولما كان ما أنزله اللّه من البينات والهدى ما أنزل إلا لخير الأمم، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. وهم لن يصل إليهم الخير، ولن يهتدوا إذا كتم عنهم ما أنزل، وهم من أجل ذلك أحوج ما يكونون إلى إظهاره وتعليمه، شدّد اللّه النكير على الكاتمين، لما ينشأ عن هذا الكتمان من الضرر الجسيم، وتعطيل الكتب السماوية أن تؤتي الثمرة المرجوّة منها.
والمراد في قوله تعالى : ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى كل ما أنزله اللّه على الأنبياء من الكتب والوحي، ومن الدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة.
والآية عامة في كل كاتم ومكتوم يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم. ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه.
أما قوله : مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فقد قيل : المراد بالكتاب «التوراة» و«الإنجيل»، والمكتوم ما جاء فيهما من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والأحكام. وقيل : أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين. والثاني القرآن.
واللعن في اللغة : الإبعاد مطلقا. ويطلق على الذم. وفي الشرع : الإبعاد من الثواب.
و(اللعنون) قد بينوا في آية أخرى هي قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) [البقرة : ١٦١] وقد قيل المراد باللاعنين :
دوابّ الأرض وهوامها، فإنّها تقول : منعنا القطر من بني آدم، وقيل غير ذلك.
وأنت قد رأيت أن اللعن قد جاء مرتبا على الكتمان، فلا مانع من أن يراد باللاعنين كل من يلحقه أثر الكتمان، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠).
التوبة : عبارة عن الندم على فعل القبيح، لا لغرض سوى أنه قبيح، والإصلاح :
ضد الإفساد، والتبيين : الإظهار.
عني القرآن الكريم عناية خاصة بتشديد النكير على من يكتم العلم. فهذه الآية دالّة دلالة صريحة على أن الكتمان جرم عظيم : يستحقّ مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة اللّه، وذمّ الناس إياه، ومقتهم وغضبهم، وذكر في آية أخرى قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران : ١٨٧] وقال تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة : ١٧٤] وقال في الحث على بيان العلم وإن لم يذكر الوعيد : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا


الصفحة التالية
Icon