ص : ٤٨٢
وروي القول بعدم الوقوع عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وغيرهم، وروي عن الشعبي تفصيل يرجع إلى من حصل منه الإكراه، إن كان السلطان لم يلزمه الطلاق، وإن كان غيره لزمه.
قال اللّه تعالى : ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
يقول اللّه ادْعُ يا محمد الناس إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي إلى شريعة ربك، وهي الإسلام بِالْحِكْمَةِ أي بالقول المحكم وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بالعبر التي تؤثّر بها في قلوبهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ خاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها، فاصفح عمّا نالوا به عرضك من الشتم والهجاء، ولن لهم في القول، وقابل السوء بالحسنى، وليكن قصدك من الخصومة الوصول إلى الحق، فلا تعمل ما يعمله السفهاء في جدالهم من رفع الصوت، وسب الخصم، والمغالبة باليد والسباب إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وبمن اهتدى إليه، فمجازيهم على ضلالهم واهتدائهم، فله الجزاء لا إليك، وإنما عليك الدعوة والبلاغ.
وذهب ابن رشد والفخر الرازي وبعض فلاسفة المسلمين إلى أنّ المراد بالحكمة البرهان الذي يفيد يقينا لا يحتمل النقيض، وبالموعظة الحسنة الخطابة التي تفيد الظن الظاهر والإقناع، والمراد بقوله : وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ استعمل معهم أحسن صناعة الجدل، فاستعمل معهم المقدمات المسلّمة عند الجمهور، أو عند المناظر، لتصل إلى الحق ولا تستعمل معهم المقدمات الباطلة، وتروجها عليهم بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة.
قالوا : وإنما احتيج لهذه الصناعات الثلاثة : البرهان، والخطابة، والجدل، لأن الناس متفاوتون في العقول والأفهام، فمنهم من بلغ رتبة الحكمة، فلا يقنعه إلا البرهان المفيد لليقين الذي لا يحتمل النقيض، لا حالا ولا مآلا.
ومنهم الطرف الآخر، المقابل للأول، وهم جمهور الناس، وهؤلاء لا يفيدهم إلا صناعة الخطابة. والبرهان مضرّ بهم، فلا يصلون إليه، وربما أفسد استعماله معهم عليهم أمرهم.
القسم الثالث بين بين، فقد ارتفع عن طبقة العامة، ولم يصل إلى طبقة الخاصة، وهؤلاء لا يصلحهم إلا الجدل الحسن، وفي هذا دليل على أن القرآن من عند اللّه، لأنّ هذه معارف لا يصل إليها إلا الحكماء الذين مارسوا الحكمة وانقطعوا لها! ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم نشأ أميا، لم يمارس الحكمة، فظهور هذه الحكمة العالية على لسانه دليل على أنّه من عند من علّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.