ص : ٦٥
ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا : فذهب طاوس «١» وقوم معه : إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت للقرابة غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم تجز، وذهب غيرهم إلى أنها منسوخة في حقّ من يرث، وحق من لا يرث. وحجة الأولين : أن الوصية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين كانت واجبة بالآية، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب.
ويؤكد هذا
قوله عليه الصلاة والسلام :«ما حقّ امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» «٢»
. وحجة الآخرين ما
رواه الشافعي عن عمران بن الحصين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة «٣»
فلو كانت الوصية واجبة للأقربين وإذا جعلت في غيرهم بطلت لما أجازها صلّى اللّه عليه وسلّم في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين، وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنّ آية الوصية محكمة غير منسوخة، نقل ذلك عنه الفخر الرازي، وقرر مذهبه بوجوه :
أولا : أنّ هذه الآية ليست مخالفة لآية المواريث، بل هي مقررة لها، والمعنى :
كتب ما أوصى اللّه به من توريث الوالدين والأقربين في قوله : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء : ١١] إذا كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين، والأقربين بتوفير ما أوصى اللّه به لهم عليهم.
ثانيا : أنه لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من اللّه تعالى، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
ثالثا : لو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصّصة لآية الوصية لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكلّ قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث، فبقيت آية الوصية مرادا بها القريب الذي لا يرث، إمّا لمانع من الإرث ككفر ورق، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام.
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ٢٤٥)، ٥٥ - كتاب الوصايا، ١ - باب الوصايا حديث رقم (٢٧٣٨)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٤٩)، ٢٥ - كتاب الوصية حديث رقم (١/ ١٦٢٧).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٢٨٨)، ٢٧ - كتاب الإيمان حديث رقم (٥٦/ ١٦٦٨).