ص : ٦٧
ويتركون ذوي القربى في ضنك وشدة، فنهاهم اللّه عن ذلك، وجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم أوعد الموصين الذين يخالفون ما أمر به. ويجعلونها في غير المواضع التي أمرهم بها، أو يوصون بغير معروف، كأن يعطوا الأغنياء من أقاربهم، ويتركوا الفقراء، وعلى هذا يكون الضمير في قوله : فَمَنْ بَدَّلَهُ راجعا إلى الحكم الذي علم من الآية السابقة.
أما على القول الأول فالضمير راجع إلى الوصية. وإنما أتى به مذكّرا والوصية مؤنثة نظرا إلى المعنى، فإنها بمعنى الإيصاء، كقوله : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة : ٢٧٥] أي وعظ، وقد دلت الآية على أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره. فالميت لا يؤخذ ببكاء أهله إلا أن يكون له دخل في البكاء، كأن يكون أوصى به.
ولذلك لا يعذّب الميت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه، فقصّروا في القضاء، وهي في معنى : وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام : ١٦٤] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت : ٤٦] لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة : ٢٨٦].
هذا وقد طعن قوم في أحكام الوصية والميراث في الشريعة الإسلامية. وقالوا :
إنها لا تلين لرغبات المالكين، وقد تكون هذه الرغبات محترمة أما أنها لا تلين لرغبات المالكين فلأن الميراث قد فرضت فروضه، وعيّنت أنصباؤه، وليس لأحد أن يغيّر فيها، وقد منعت الوصية للوارث، فليس لأحد أن يوصي لوارثه.
وأما أن رغبة المالكين قد تكون محترمة فلأنه ربما أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه، لأنه يراه أبرّ به من غيره، أو لأنه أحوج، قالوا : والشريعة الإسلامية قد خالفت ما عند الأمم الأخرى من احترام رغبات المالكين. وقد تذرّعت أمة إسلامية بذلك فتركت أحكام الشريعة في الميراث والوصايا، واستبدلت بها القانون السويسري.
ونحن نرى أنه لا موجب لهذه الغارة على أحكام الشريعة، فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من رأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية، وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ، ولا منافاة بينها وبين الميراث.
فالميراث عطية من اللّه، والوصية عطية من المالك للوارث، فإذا كانت هذه الأمة قد اضطرت لاحترام إرادة المالكين، ولم تبال بما يصحبها من جور غالبا.
ففي الشريعة الإسلامية متسع لهذا. فلنا الأخذ برأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية وهو يجيز الوصية للوارث، ويحترم رغبة المالكين. فمن شاء أن يوصي لابن بار، أو وارث أشد حاجة : فله ذلك عنده. وما دام في الشريعة غنى، فليس لهم أن يستبدلوا بها قانونا آخر. وإن الأخذ بقول من أقوالها مهما كان ضعيفا خير من الخروج عنها جملة.