ص : ٧٢
كلفنا أياما معدودات، وهي وإن قلّت فجزاؤها جزيل، ثم بيّن جل شأنه أنه خصّ هذه الأيام بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لمزيد الشرف ثم بين أن هذا التكليف خاصّ بمن قدر عليه، حيث أباح تأخيره لمن يشق عليه من المرضى والمسافرين إلى وقت يقدرون عليه فيه.
وقد اختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال :
ذهب الحسن وابن سيرين «١» إلى أنّ المدار على تحقق وصف المرض، فأيّ مرض وأيّ سفر بالغين ما بلغا يترخّص بهما المسافر والمريض في الفطر في رمضان، وقد روي أنّ جماعة دخلوا على ابن سيرين فوجدوه يأكل، فاعتل بوجع إصبعه.
وذهب الأصم إلى أنّ المراد المريض والمسافر اللذان لا يقدران على الصوم مع المرض والسفر إلا بجهد ومشقة.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وهذا هو الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رخّص للمريض هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلا حيث يظنّ العسر، وإن من الأمراض ما يكون شفاؤه بالصوم، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك، ولم يكلفنا اللّه سبحانه إلا على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سببا للمرض، أو يزيد في العلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمر يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين.
وكذلك اختلفوا في السفر المبيح للفطر.
فقال داود الظاهري : الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان فرسخا، وحجته أن الحكم علّق في الآية بكونه مسافرا، وهو مؤذن بعلية ما اشتق منه، فحيث تحقّق السفر تحقق الحكم وهو الرخصة، وقال : كل ما في الباب أنكم تروون خبرا آحاديا، وتخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد غير جائز.
وقال الأوزاعي :«٢» السفر المبيح للفطر مسافة يوم، وذلك لأن أقل من هذا قد يتفق للمقيم، وكأنه يعتبر في المسافر عدم التمكن من الرجوع إلى أهله في اليوم.
وذهب الشافعي رضي اللّه عنه إلى أن السفر المبيح مقدّر بأربعة برد، كلّ بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ مقدّر بثلاثة أميال بميل هاشم جد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو الذي قدر أميال

(١) محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، اشتهر بتعبير الرؤيا ينسب له كتاب تعبير الرؤيا، انظر الأعلام للزركلي (٦/ ١٥٤).
(٢) عبد الرحمن بن عمرو، إمام الشام ولد في بعلبك، سكن بيروت وتوفي بها، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٣٢٠).


الصفحة التالية
Icon