ص : ٧٢٥ ويقول العلماء جوابا عن هذا : إنّ هذه الأيمان والأقسام لم تجئ لإثبات الدعاوى، فالدعاوى لها ما يثبتها، وقد اقترنت من دلائل الإثبات بما لا يدحض، إنما جاءت هذه الأقسام لتوكيد ما ثبت من طريق الحجة والبرهان على منهاج العرب وأسلوبهم في توكيد الكلام بالحلف، وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم، والقرآن بلغتهم نزل.
على أننا نحيلك إلى التبصر في كل الأقسام الواردة في القرآن، وبالتأمل فيها تجدها أشياء في مواضعها أقسم بها، وقد حوت من الدلائل ما يجعل القسم ليس قسما في الواقع، وإنما هو تذكير بالدليل الذي يشتمل عليه المقسم به، فهو يذكر في معرض القسم، وهو مخلوق من المخلوقات، فتتوجه النفس إلى سر القسم بهذا المخلوق متسائلة : ما القسم بهذا؟ وما معناه؟ وما مغزاه؟ وما سره؟ ثم تتوجه من ذلك إلى ما في القسم به، باعتبار ما ينبعث منه من بواعث التعظيم، ويكون حاصل المعنى، وحق هذه الأشياء التي ينطق صنعها ووجودها بالعظمة أنّ المقسم عليه لحق.
وما دمنا قد وصلنا إلى هذا فلنتكلم على القسم بمواقع النجوم :
يقول اللّه تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) والحديث قبل القسم من أول سورة الواقعة في شأن الواقعة والقيامة الكبرى، وما يكون فيها من أشياء جسام إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) ثم ذكر اللّه أقسام الخلق يومئذ، ثم ذكر الأدلة القاطعة على عموم قدرته، وعلى المعاد. فذكر النشأة الأولى دليلا : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢).
ثم ذكر إخراج النبات من الأرض، وإنزال الماء من السماء. وخلق النار، وسأل الناس أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) ثم ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا، وأمر نبيه أن يسبّح باسم ربه العظيم، ثم أقسم بمواقع النجوم على إثبات القرآن، وكرمه وصونه، وحفظه، وأنه تنزيل من رب العالمين.
وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء في المراد بالمواقع، وما دام الكلام سيكون في سر القسم بها نذكر شيئا مما قيل فيها غير ما سمعت :
فقد روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : النجوم آيات القرآن، ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء. وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبير، ومقاتل، وقتادة.