ص : ٨٧
الآخرة فإذا فعل شيئا منها بعد النوم أو بعد صلاة العشاء فقد ارتكب محرّما. ونسخ اللّه هذا الحكم بهذه الآية.
وقال أبو مسلم الأصفهاني : ما كانت هذه الحرمة في شرعنا، بل كانت في شرع النصارى، واللّه تعالى نسخ بهذه الآية ما كان في شرع النصارى.
وقد استدل الجمهور لمذهبهم بوجوه :
منها : التمسك بالتشبيه في قوله تعالى : كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
ومنها قوله : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ فإنه يقتضي سابق الحرمة.
ومنها قوله : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ وقوله تعالى : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فإنّ الأكل بعد النوم، وكذا الوقاع، لو لم يكن محرّما ما كان هناك معنى لتخوينهم أنفسهم، ولا لتوبة اللّه عليهم، ولا لعفوه، ثم إن قوله تعالى : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ يقتضي أنّ المباشرة كانت محظورة، وأبيحت بقوله : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ.
وقد ردّ أبو مسلم هذه الحجج بما نجمله فيما يأتي :
سبق أنه قال : إن هذه الحرمة كانت في شرع النصارى، وقد فهم الصحابة بقاء الحكم، فكانوا يمتنعون من الأكل والوقاع بعد النوم وبعد الصلاة الأخيرة، فبيّن اللّه بهذه الآية أنه قد خفف عن هذه الأمة وعفا عنها، فلم يوجب عليها ما أوجبه على الأمم السابقة، وأذن لها في تناول ما كان محظورا في الأمم السابقة.
وأنت تعلم أن ذلك يتوقف إلى حد كبير على ثبوت أن يكون ذلك كان شريعة للنصارى، وهو ما لم يثبت بعد، ثم هو مع ذلك مخالف لظاهر قوله : تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وإن كان هو يتأوّلها بتنقيص شهواتها، بدليل إضافتها إلى النفس، وهو يقول : لو كان ذلك محرّما لكان خيانة للشرع لا للنفس، ولكن، أليست مخالفة أحكام الشرع خيانة للنفس، لأنّها تستوجب بها العذاب في الدنيا والآخرة.
ثم إنّ ظاهر قوله : فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ مهما تأوله بالتخفيف، فإنه ظاهر في أنه لا يقال : خففت عن فلان إلا ما كان ثقيلا عليه.
نعم إنّ له أن يقول : إنّ من شأن هذا التكليف أن يكون ثقيلا علينا لو شرع، فإسقاطه عنا تخفيف.
ولكن نقول : هو احتمال، ولكن المتبادر خلافه، ونحن نقول بظاهر الآية لا بنصها.
ثم إنّ الأسباب التي ذكرت في نزول الآية تعاضد الذي ذهب إليه الجمهور :
منها ما
روي أنّ رجلا - وفي اسمه خلاف - من الأنصار جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عشية، وقد أجهده الصوم، فسأله الرسول عن سبب ضعفه فقال : يا رسول اللّه -