ص : ٨٨
عملت في النخل نهاري أجمع، حتى أمسيت، فأتيت أهلي لتطعمني شيئا فأبطأت، فنمت، فأيقظوني وقد حرّم الأكل، فقام عمر فقال : يا رسول اللّه أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء الآخرة فأتيت امرأتي، فقال عليه الصلاة والسلام :«لم تكن جديرا يا عمر» وقام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا. فنزل قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «١»
أي الإفضاء إليهن.
ولَيْلَةَ نصب على الظرفية.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي علم اللّه أنكم كنتم تسرّون بالمعصية في الجماع بعد العتمة، والأكل بعد النوم، وترتكبون المحرم من ذلك، ومن فعل ذلك فقد خان نفسه، وخان اللّه ورسوله.
وأنت ترى أن فهم الآية على هذا الوجه يفيد أنّ الجماع والأكل قد وقعا ولو من بعضهم، ويؤيده ما رويناه في سبب النزول.
وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلّى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب، والجماع، وروى مثله الضحاك وابن أبي ليلى «٢».
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أمر بفعل ما كان محظورا وقد قالوا : إنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، والإباحة ظاهرة هنا، لأنه لا معنى لإيجاب المباشرة، المباشرة هنا المراد منها الجماع، وهي مشتقة من ملاصقة البشرة البشرة، ومنه ما
ورد من نهي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن أن «يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة» «٣»
وهو من أجل ذلك حقّه أن يتناول المباشرة غير الفاحشة، لكن سياق الآية وما يأتي بعد هذا قرينة على أنّ المراد هنا الجماع أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ والمراد منه الجماع، فكان الكلام فيه، وسنتكلم عليه عند قوله : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، قيل : هو الولد، وقيل : ليلة القدر، وقيل :
الرخصة. قال أبو بكر الرازي «٤» : فلما كان الكلّ محتملا فالأولى أن ينتظم اللفظ الكلّ، ويكون الكل مرادا حيث لا مانع، ويكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في رمضان، ولفعل الرخصة، وللولد، فإذا فعل العبد واحدا منها أو الكل قاصدا الثواب كان مأجورا على ما يقصده من ذلك.

(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ٩١).
(٢) انظر تفسير الطبري المسمى جامع البيان (٢/ ٩٥ - ٩٨).
(٣) رواه أحمد في المسند (١/ ٣٠٤).
(٤) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٢٨).


الصفحة التالية
Icon