وإن من طريف(١) ما ورد في معنى الآية ما قاله الإمام ابن القيم، فلقد ذكر في معناها وجهاً لم يُسبق إليه، أذكره لأهميته وفائدته. فإنه بعد أن ردّ على كلّ وجه مُحتمل من ما ذكره المفسرون؛ قال: " فإن قيل: فما وجه الآية؟ قيل: وجهها -والله أعلم- أن المتزوج أَمِر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي الناس والمائدة(٢)، والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه(٣)، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه لم يصح النكاح، فيكون زانياً، فظهر معنى قوله: ((لا ينكح إلا زانية أو مشركة)) وتبين غاية البيان. وكذلك حكم المرأة.
وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة، ومقتضى العقل، فإن الله -سبحانه- حرم على عبده أن يكون قرناناً(٤)

(١) الطريف: الغريب من الثمر وغيره. القاموس المحيط للفيروز آبادي ص(١٠٧٥)، باب الفاء، فصل الطاء.
(٢) في قوله تعالى: ﴿ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾ [سورة النساء: ٢٥]. وقوله تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [سورة المائدة: ٥].
(٣) الشرط: هو ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم.
... روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة ص(٣٤)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (١/٤٣٠).
(٤) القَرْنان: الديوث المُشارك في قرينته، أي زوجته.
... القاموس المحيط للفيروز آبادي ص(١٥٧٩)، باب النون، فصل القاف.

فأمر - سبحانه وتعالى - بالإعراض عن سماع هذا القول، ونهى عن القعود مع قائليه قال تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ [سورة النساء: ١٤٠]. فجعل سبحانه المستمع لهذا الحديث مثل قائله فكيف سبحانه يمدح مستمع كل قول، وقال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) ﴾ [سورة المؤمنون: ١-٣]. وقال تعالى في وصف عباده: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [سورة الفرقان: ٧٢]. أي أكرموا أنفسهم عن استماعه، فإذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد أثنى على من أعرض عن اللغو ومر به كريماً، فأكرم نفسه عن استماعه، فكيف يجوز أن يقال: إن الألف واللام للاستغراق، وينسب إلى الله سبحانه، أنه مدح مستمع كل قول، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦) ﴾ [سورة الإسراء: ٣٦]. فقد أخبر سبحانه أنه يسأل العبد عن سمعه وبصره وفؤاده ونهاه أن يقفو أي يتبع ما ليس به علم.
وإذا كان السمع والبصر والكلام والفؤاد منقسماً إلى ما يؤمر به وينهى عنه والعبد مسؤول عن ذلك كله فكيف يجوز أن يقال: كل قول في العالم فالعبد ممدوح على استماعه ونظير هذا أن يقال: كل مرئي في العالم فالعبد ممدوح على النظر إليه لقوله: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [سورة يونس: ١٠١] وقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [سورة الأعراف: ١٨٥].
رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤) }... ١٩٤... -٢٨٥
سورة النساء
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) ﴾... ١... ، ٦٢١
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦) ﴾... ٦... ، ١٧٥، ١٨٠
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠) ﴾... ١٠... ٦٣٧
﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١) ﴾... ١١


الصفحة التالية
Icon