٢- ((أنى لهم التناوش)) الرجوع إلى الدنيا(١).
ترجيح الشنقيطي:
... قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: " وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ((وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)) أنى: تدل على كمال الاستبعاد هنا، والتناوش: التناول، وقال بعضهم: هو خصوص التناول السهل للشيء القريب.
... والمعنى: أنه يستبعد كل الاستبعاد ويبعد كل البعد أن يتناول الكفار الإيمان النافع في الآخرة بعدما ضيعوا ذلك وقت إمكانه في دار الدنيا. وقيل: الاستبعاد لردهم إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا، والأول أظهر، ويدل عليه قوله قبله ((وقالوا آمنا به)) ومن أراد تناول شيء من مكان بعيد لا يمكنه ذلك والعلم عند الله تعالى "(٢). فالشيخ الشنقيطي إذاً يرى أن المراد بـ ((أنى لهم التناوش)) أن الكفار لا ينفعهم إيمانهم إذا آمنوا عند معاينتهم لأحداث اليوم الآخر يوم القيامة؛ بعدما ضيّعوا فرصة الإيمان بأيديهم وهم في الدنيا.
الموافقون:
... كثير من المفسرين ذهبوا في بيان معنى الآية إلى مثل ما ذهب إليه الشنقيطي أذكر بعضهم وأقوالهم:
١- الإمام النيسابوري: " ((وأنى لهم التناوش)) التناول. ناوشته: أخذته من بعيد، والمراد: الإيمان والتوبة. أي كيف التناول من بعيد لما كان قريباً فلم يتناولوه "(٣).
٢- القرطبي: " قوله تعالى ((وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)) يقول: أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا "(٤).
٣- الخازن: " ((وأنى لهم التناوش)) أي والمعنى كيف لهم تناول ما بَعُد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً منهم في الدنيا فضيعوه "(٥).

(١) البحر المحيط لأبي حيان (٨/٥٦٦) نقله عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
(٢) أضواء البيان للشنقيطي (٦/٦٢٩).
(٣) إيجاز البيان لللنيسابوري (٢/١٣٥).
(٤) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٤/٣١٦).
(٥) لباب التأويل للخازن (٥/٢٤٥).

٣- أقول: يتضح من استعراض أدلة كل قول استناد كل فريق على قاعدة معروفة من قواعد الترجيح، فمن رجح النبات الذي لا ساق له؛ استند على قاعدة دلالة سياق الآيات، وهي قاعدة معتمدة عند المفسرين(١). ومن رجح نجوم السماء استند على قاعدة تفسير القرآن بالقرآن الذي هو أحسن طرق التفسير(٢).
٤- فهنا تنازعت قاعدتان من قواعد الترجيح، وإذا كانت الحالة هذه، " فإن أولى القواعد بالتقديم هي التي ترجح التفسير الأثري، وأعني به تفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالسنة، فهي مقدمة عند التنازع على كل قاعدة ترجح تفسيراً اجتهاديًا؛ لأن الله تعالى أعلم بما نزّل ورسوله - ﷺ - مكلَّف ببيان ما نزل "(٣)، " والتفسير الأثري إذا صح لا يعارض بتفسير الرأي والاجتهاد، وبظواهر الألفاظ لأنه إما أن يكون للرأي مستند من الوحيين أو لا، فإن كان الأول فلا يتعارض وحيان، وإن كان الآخر فلا يعدو أن يكون اجتهاداً مستنداً إلى القرائن والأمارات لا يقوى على معارضة ما كان مستنده القرآن والسنة "(٤).
٥- وعليه فالذي يظهر -والله أعلم- أن الراجح هو ما ذهب إليه الشنقيطي والموافقون من أن النجم في قوله تعالى: ((والنجم والشجر يسجدان)) يراد به نجوم السماء. والله أعلم بالصواب.
- - -
المراد بالأولين والآخِرين
٩٥- قوله تعالى: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (١٤) ﴾ [سورة الواقعة: ١٣-١٤].
مجمل الأقوال الواردة:
القول الأول... ثلة من الأولين... قليل من الآخرين
(١) قواعد التفسير لخالد السبت (١/٢٤٩).
(٢) شرح مقدمة التفسير لابن عثيمين ص(١٢٧).
(٣) قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين الحربي (١/٥٨).
(٤) مناهل العرفان للزرقاني (١/٥٣٣) بتصرف.


الصفحة التالية
Icon