تعقيب الباحث:
... الذي يظهر -والله أعلم- أن الأرجح في معنى هذه الآية ((لتنذر قوماً ما أنذر آباءهم فهم غافلون)) هو ما ذهب إليه الشنقيطي ومن قال بمثل قوله من أن لفظة ((ما)) في الآية يراد بها النفي، ويكون معنى الآية: لم ينذر آباؤهم، يؤيد ذلك أمور:
١- كون هذا القول هو قول الجمهور، يدل على ذلك تصريح عدد من المفسرين بذلك كالإمام النسفي(١)، وابن الجوزي(٢)، والقرطبي(٣)، والشوكاني(٤)، والقنوجي(٥).
٢- بالرغم من وجود أقوال أخرى، إلاّ أنه لم يوجد قديماً ولا حديثاً من رجّح قولاً مخالفاً لما ذهب إليه الجمهور.
٣- وقبل هذا كله بل هو الأساس في ترجيح هذا القول الراجح؛ دلالة السياق(٦)، فإن سياق الآية يدل عليه، فبداية الآية قوله تعالى ((لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم)) وختامها ((فهم غافلون)) فكونهم غافلون يناسبه عدم الإنذار لا الإنذار(٧).
٤- كذلك دلالة آيات أخرى على المعنى الراجح(٨) في آية سورة يس هذه، وهو كون آبائهم لم يأتهم نذير قبل النبي محمد - ﷺ - وقد مر معنا عند فقرة ترجيح الشنقيطي ذكر عدد من الآيات في الهامش- ومن الآيات الدالة بوضوح أيضاً على كون آبائهم ضالين؛ قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) ﴾ [سورة الصافات: ٦٩] فكون الآباء ضالين معناه أنهم لم يأتهم نذير يزيح عنهم هذا الضلال وتلك الغفلة. والله أعلم بالصواب.
- - -
المراد بقوله تعالى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ Wx"n=ّîr&.. ﴾
(٢) زاد المسير لابن الجوزي (٦/٢٦٢).
(٣) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٥/٧).
(٤) فتح القدير للشوكاني (٤/٣٤٩).
(٥) فتح البيان للقنوجي (١١/٢٧١).
(٦) قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين الحربي (١/١٢٥).
(٧) أضواء البيان للشنقيطي (٦/٦٤٩).
(٨) قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين الحربي (١/٣١٢).
٩٧- قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣) ﴾ [سورة الواقعة: ٧١-٧٣]
مجمل الأقوال الواردة:
... أُختُلِفَ في المراد بلفظ ((المقوين)) في الآية على أقوال:
١- أن (المقوين): المسافرون.
٢- أو المقوين: الجائعون.
٣- الفقراء والمساكين.
٤- المستمتعون(١).
٥- أن لفظ المقوي من الأضداد، فيطلق على الغني والفقير(٢).
٦- أو أن لفظ المقوي يعني: أوقده وقواه وزاده(٣).
ترجيح الشنقيطي:
... قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: " وقوله تعالى ((ومتاعاً للمقوين)) أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد، وهم المسافرون؛ لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعاً عظيماً في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون اللفظ وارداً للامتنان. وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهوماً للمقوين؛ لأنه جيء به للامتنان أي وهي متاع أيضاً لغير المقوين من الحاضرين بالعمران، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى؛ فالرجل إذا كان في الخلاء يقال له أقوى، والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت.
ومنه قول نابغة ذبيان:
يا دارمية بالعلياء فالسند | أقوت وطال عليها سالف الأبد(٤) |
(٢) مختصر البغوي (٢/٩٢٠) حكاه عن قطرب.
(٣) التفسير الكبير للفخر الرازي (١٠/٤٢٣).
(٤) البيت هو مطلع معلقة النابغة الذبياني، وهو زياد بن معاوية بن ذبيان الغطفاني، من شعراء الجاهلية المشهورون، مات سنة (٦٠٤هـ) قبل مبعث النبي - ﷺ -. انظر: المعلقات العشر ص(٢٦٣).