وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية من كونه -جل وعلا- يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه؛ جاء موضحاً في آيات كثيرة: كقوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ [سورة الكهف: ٥٧]، وقوله تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [سورة البقرة: ٧]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ [سورة الجاثية: ٢٣]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [سورة الأنعام: ١٢٥]، وقوله تعالى: ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾ [سورة الأعراف: ١٨٦]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة المائدة: ٤١]، وقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) ﴾ [سورة النحل: ١٠٨]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾ [سورة هود: ٢٠]، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١) ﴾ [سورة الكهف: ١٠١]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
الذي يظهر -والله أعلم- صحة حمل لفظ ((المقوين)) على جميع المعاني الواردة عن المفسرين، وذلك لأمور:
١- أن من فسر ((المقوين)) بالمسافرين جعل اشتقاق اللفظ من: " الأرض القواء، يعني الخلاء والفلاة التي ليس فيها أحد "(١)، والمسافر في أثناء سفره يقطع أراض وفيافٍ تكون خالية من البشر غالباً؛ وهي الأرض القواء، فصح أن يقال عن المسافرين (مقوين).
٢- من فسّر (المقوين) بأنهم الجائعين، أو الفقراء والمساكين، جعل اشتقاق اللفظ من قوله: " أقويت منذ كذا وكذا أي ما أكلت شيئاً "(٢). فصح إطلاق (المقوين) على الجائعين عموماً أو الفقراء والمساكين خصوصاً لخلو بطونهم من الطعام.
٣- من حمل لفظ ((المقوين)) على أنه يراد به المستمتعين المنتفعين بالنار عموماً؛ فإن مؤيدهم في ذلك " ما تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون اللفظ وارداً للامتنان(٣). وعليه لا يعتبر مفهوماً للمقوين؛ لأنه جيء به للامتنان، أي وهي متاع أيضاً لغير المقوين من الحاضرين بالعمران "(٤). وإنما خص المسافرين بالذكر لأن " أهل البوادي والأسفار منفعتهم بها أكثر من منفعة المقيم وذلك أنهم يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السباع، ويهتدي بها الضال، وغير ذلك من المنافع "(٥).
٤- ومن حمل لفظ ((المقوين)) على صحة إطلاقه على الغني والفقير، فإنهم اعتبروه من الأضداد " يقال للفقير مقوٍ لخلوه من المال، ويقال للغني مقوٍ لقوته على ما يريد، يقال: أقوى الرجل إذا قويت دوابه وكثر ماله، وصار إلى حال القوة، والمعنى أن فيها متاعاً للأغنياء والفقراء جميعاً لا غنى لأحد عنها "(٦).
(٢) مختصر البغوي (٢/٩٢٠).
(٣) انظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص(٢٤١).
(٤) أضواء البيان للشنقيطي (٧/٧٩٦).
(٥) مختصر البغوي (٢/٩٢٠).
(٦) المرجع السابق.