إلى أن قال:] واعلم أن قول من قال من أهل العلم: إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ﴾ أن المراد بذلك الأغلال التي يعذبون بها في الآخرة؛ كقوله تعالى: ﴿ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ﴾ [سورة غافر: ٧١-٧٢] خلاف التحقيق، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا كما أوضحنا "(١).
الموافقون:
... عدد كثير من المفسرين ذهبوا في بيان معنى الآية إلى مثل مذهب الشنقيطي فيها، منهم:
١- الإمام ابن عطية -بعد أن ذكر الآية وذكر بعدها عدداً من الأقوال الواردة فيها- قال: " وقالت فرقة: الآية مستعارة المعنى من منع الله - عز وجل - إياهم من الإيمان وحوله بينه وبينهم، وهذا أرجح الأقوال؛ لأنه لمّا ذكر أنهم لا يؤمنون لِمَا سبق لهم في الأزل عقَّب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلوبين "(٢).
٢- ابن جزي: " ((إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً...)) فيها ثلاثة أقوال: الأول: أنها عبارة عن تماديهم على الكفر ومنع الله - عز وجل - لهم من الإيمان، فشبههم بمن جعل في عنقه غلّ يمنعه من الالتفات، وغطي على بصره فصار لا يرى. والثاني: أنها عبارة عن كفهم عن إذاية النبي - ﷺ - حين أراد أبوجهل أن يرميه بحجر؛ فرجع عنه فزعاً مرعوباً. والثالث: أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم. والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها ﴿ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [سورة يس: ٧]. وقوله بعدها ﴿ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) ﴾ [سورة يس: ١٠] "(٣).
(٢) المحرر الوجيز لابن عطية (١٢/٢٧٥).
(٣) التسهيل لابن جزي (٣/٣٥١).
٥- وعموماً فقد صرّحوا بأن " الآية تصلح للجميع؛ لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم، والغني والفقير "(١).
٦- فائدتان:
أ- يقول الفخر الرازي: " قدم - سبحانه وتعالى - كونها تذكرة على كونها متاعاً ليعلم أن الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم "(٢).
ب- يقول ابن القيم: " وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهاً لعباده -والله أعلم بمراده من كلامه- على أنهم كلهم مسافرون وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابروا سبيل وأبناء سفر "(٣). والله أعلم بالصواب.
- - -
المراد بالتربص
٩٨- قوله تعالى: ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) ﴾ [سورة الحديد: ١٤].
مجمل الأقوال الواردة:
١- أن المراد بالتربص: الانتظار، يعني تربص المنافقين بالنبي - ﷺ - الموت، وبالمؤمنين الدوائر(٤).
٢- أو يكون المراد بالتربص: تأخير التوبة، والمعنى: تربصتم أي أخرتم التوبة من وقت إلى وقت حتى متّم(٥).
ترجيح الشنقيطي:
(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي (١٠/٤٢٣).
(٣) بدائع التفسير لابن القيم (٤/٣٥٦).
(٤) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٧/٢٤٧)، أضواء البيان للشنقيطي (٧/٨٠٩).
(٥) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (٤/٣٠٩)، جواهر الحسان للثعالبي (٤/٢٦٥).