٥- وأختم بفائدة عن البقاعي وفّق فيها بين المعنيين -من قال إن الآية على الاستعارة ويراد بها منع الذين لا يؤمنون من الإيمان في الدنيا، ومن قال إنها على الحقيقة ويراد بها الأغلال في الآخرة- بأن هذه الأغلال المذكورة في الآية هي في الدنيا تمثيل واستعارة لمنعهم عن الإيمان، وفي الآخرة أغلال حقيقية في أعناقهم؛ قال: " ((لا يؤمنون)) أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيء. ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة، وكان ذلك أمراً عجباً، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه، وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر، أنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال، فقال: ((إنا جعلنا)) أي بمالنا من العظمة، وأكّده لما لهم من التكذيب ((في أعناقهم أغلالاً)) أي من ظلمات الضلالات لكل عنق غل، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تثنى على الحديد فكاد يغطيه فصار -والعنق فيه- كأنه فيها وهي محيطة به. ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو، فقال ((فهي)) أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل ((إلى الأذقان)) جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، فهي لذلك مانعة من مطأطأة الرأس. ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر، وكان تكبرهم في غير موضعه، بين تعالى أنهم ملجأون إليه فهو ذلٌّ في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال ((فهم)) أي بسبب هذا الوصول ((مقمحون)) من أقمح الرجل إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر، وأصله من قولهم: قمح البعير إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء "(١) والله أعلم بالصواب.
- - -
١- الطبري: " ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم)) يقول تعالى ذكره يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل؛ خافوا الله - عز وجل - بأداء طاعته واجتناب معاصيه، وآمنوا برسوله محمد - ﷺ - "(١).
٢- الماوردي(٢)....... ٣- البغوي(٣)....... ٤- النسفي(٤)....
٥- النيسابوري(٥)....... ٦- ابن الجوزي(٦)....... ٧- الفخر الرازي(٧).
٨- القرطبي(٨)....... ٩- الخازن(٩).......... ١٠- ابن جزي(١٠).
١١- البيضاوي(١١)....... ١٢- المحلي(١٢)....... ١٣- البقاعي(١٣).
والذين لم أذكر كلامهم فإنه لا يخرج في مجمله عما قاله الطبري.
تعقيب الباحث:
... يظهر -والله أعلم- أن الراجح كون الخطاب في هذه الآية يراد به من آمن بالنبي - ﷺ - من مؤمني أهل الكتاب ودخل في الإسلام مصدقاً بالنبي محمد - ﷺ - وبما جاء به من القرآن الكريم، يظهر هذا واضحاً من سياق الآيات، فإن " إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعد أولى به من الخروج عنه "(١٤)، واستناداً إلى هذه القاعدة الترجيحية؛ يترجح ما ذهب إليه الإمام الطبري ومن معه: من كون الخطاب يراد به من آمن بالنبي - ﷺ - من أهل الكتاب.
(٢) النكت والعيون للماوردي (٥/٤٨٥).
(٣) مختصر البغوي (٢/٩٢٨).
(٤) مدارك التنزيل للنسفي (٤/١٧٤).
(٥) إيجاز البيان للنيسابوري (٢/٢٤٦).
(٦) زاد المسير لابن الجوزي (٧/٣١٢).
(٧) التفسير الكبير للفخر الرازي (١٠/٤٧٥).
(٨) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٧/٢٦٦).
(٩) لباب التأويل للخازن (٧/٣٤).
(١٠) التسهيل لابن جزي (٤/١٨٣).
(١١) أنوار التنزيل للبيضاوي (٢/٢٥٠).
(١٢) تفسير الجلالين ص(٤٥٩).
(١٣) نظم الدرر للبقاعي (١٩/٣٢٤).
(١٤) قواعد التفسير لخالد السبت (١/٢٤٩).