فالقول الأول هو: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضاً، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة. هذا القول يدل عليه سياق الآيات ونظمها، فالآية التي قبل تتحدث عن اجتماع المؤمنين مع الرسول - ﷺ - على أمر جامع وضرورة الاستئذان عند الاحتياج للخروج من الاجتماع، وما بعد يذكر فئة من المنافقين يحاولون التسلل خفية والخروج من الاجتماع دون إذن وختمت الآية بذكر العقوبة الدنيوية والأخروية لمن يخالف أمر الرسول - ﷺ - ؛ وحمل الآية على معنى ما قبلها وما بعدها قاعدة قررها أئمة التفسير(١).
والقول الثاني وهو: لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضاً: يا محمد؛ ولكن فخموه وشرفوه فقولوا: يا نبي الله يا رسول الله في لين وتواضع. فهذا القول استدل عليه الإمام الشنقيطي ومن وافقه بعدد من آيات القرآن الكريم -سبق ذكرها- ومعلوم أن أحسن طرق التفسير؛ تفسير القرآن بالقرآن(٢).
وأما القول الثالث والمراد به: احذوا دعاء الرسول - ﷺ - عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب وليس كدعاء غيره، فقد ضعفه عدد من المفسرين وإن كان يصح في المعنى، قال ابن عطية: " ولفظ الآية يدفع هذا المعنى "(٣)، وقال ابن جزي:

(١) قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين الحربي (١/١٢٧-١٣٢).
(٢) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (١٣/٣٦٣)، وشرح مقدمة التفسير لابن عثيمين
ص(١٢٧).
(٣) المحرر الوجيز لابن عطية (١٠/٥٥٦).

... من النظر في أقوال المفسرين، يظهر -والله أعلم- أن الراجح هو ما ذهب إليه الشنقيطي ومن قال بمثل ما قاله، وأن الآية فيها حكاية ما ادّعاه المشركون من جعل (جزء) نصيب من عباد الله - عز وجل - الذين خلقهم، جعلوهم أولاداً لله، بل خصوصاً هم من البنات، على أن كلمة (جزء) تحمل على المعاني الثلاثة (ولد - بنت - نصيب)، يؤيد هذا الترجيح أمور؛ منها:
١- ما صرح به عدد من المفسرين من دلالة السياق على هذا المعنى(١)، وأن ترجيح أن يراد بـ (الجزء) خصوص البنات قد دل عليه سياق الآيات، فلقد أنكر الله - عز وجل - على المشركين قسمتهم الجائرة هذه، وأنه لو -جدلاً- أرادوا أن يجعلوا ولداً لله - عز وجل -، أيجعلونه مما هم لا يحبونه ولا يريدونه. تعالى الله - عز وجل - عن قولهم علواً كبيراً. ولا شك أن دلالة السياق من المرجحات القوية بين الأقوال لدى المفسرين(٢).
(١) جامع البيان للطبري (٢٥/٣٤)، التسهيل لابن جزي (٤/٤٦)، أنوار التنزيل للبيضاوي
(٢/١٩٩)، جواهر الحسان للثعالبي (٤/١٢٣).
(٢) قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين الحربي (١/١٢٥).

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) }... ١٤
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) ﴾... ٢٥... ، ٦٣١، ٦٣٤، ٦٣٥
سورة المجادلة
﴿ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) ﴾... ١٤
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٦) ﴾... ١٦... ، ٣٥٨
سورة الممتحنة
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) ﴾... ١٠... ، ١٤٩
سورة الصف
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤) ﴾... ٤


الصفحة التالية
Icon