والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى ((ضربوا لك الأمثال)) أنهم تارة يقولون إنك ساحر، وتارة مسحور، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كاهن، وتارة كذاب، ومن ذلك ما ذكره الله - عز وجل - عنهم من قوله هنا: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ﴾ [سورة الفرقان: ٤]، وقوله: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [سورة الفرقان: ٥] ﴿ وَقَالَ ڑcqكJد="©à٩$# إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ [سورة الفرقان: ٨].
وقوله تعالى: ((فضلوا)) أي عن طريق الحق؛ لأن الأقوال التي قالوها والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء وكفر مخلد في نار جهنم، فالذين قالوها هم أضل الضالين "(١).
أقوال المفسرين:
لقد تداخلت أقوال المفسرين في بيان معنى هذه الآية، فنجد أن بعضهم يذكر بعض المعاني، وآخرين يذكرون معانٍ أخرى وغير هؤلاء وهؤلاء يذكرون من هذه المعاني ومن هذه المعاني، لذلك كان من الصعب تقسيمهم إلى موافقين ومخالفين، وإنما سأستعرض أقوال عدد من المفسرين ليتبين للقارئ تداخل المعاني ويكون التعقيب بعد ذلك. فمن أقوال المفسرين في الآية:
١- الطبري، قال: " ((انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا)) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - ﷺ - انظر يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين شبهوا لك الأشباه بقولهم لك هو مسحور، فضلوا بذلك عن قصد السبيل وأخطأوا طريق الهدى والرشاد "(٢).
٢- النسفي، قال: " ((لك الأمثال)) الأشباه أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال من المفتري والمملى عليه والمسحور "(٣).

(١) أضواء البيان للشنقيطي (٦/٢٨٤-٢٨٥) بتصرف.
(٢) جامع البيان للطبري (١٨/١٣٩).
(٣) مدارك التنزيل للنسفي (٣/١٢٢).

٣- أو يراد بالأزواج قرناؤهم ونظراؤهم وأشباههم في الطاعة(١).
ترجيح الشنقيطي:
... قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: " قوله تعالى في هذه الآية ((وأزواجكم)) فيه لعلماء التفسير وجهان:
أحدهما: أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله - عز وجل -. واقتصر على هذا القول ابن كثير(٢).
والثاني: أن المراد بأزواجهم نساؤهم في الجنة؛ لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول.
ولذا يكثر في القرآن الكريم ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم، دون الامتنان عليهم بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى إ٧ح !#u'F{$# مُتَّكِئُونَ (٥٦) ﴾ [سورة يس: ٥٥-٥٦] وقال كثير من أهل العلم: إن المراد بالشغل المذكور في الآية هو افتضاض الأبكار، وقال تعالى: ﴿ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [سورة الدخان: ٥٤، الطور: ٢٠]، وقال تعالى: ﴿ وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) ﴾ [سورة الواقعة: ٢٢-٢٣]، وقال تعالى: ﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) ﴾ [سورة الرحمن: ٧٠-٧٢]، وقال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) ﴾ [سورة الصافات: ٤٨]، وقال تعالى: ﴿ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) ﴾ [سورة ص: ٥٢] إلى غير ذلك من الآيات "(٣).
(١) الأقوال الثلاثة ذكرها الماوردي في النكت والعيون (٥/٢٣٨)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (١٦/١١١).
(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (٤/١٣٤).
(٣) أضواء البيان للشنقيطي (٧/٢٨٠).

البرهان في علوم القرآن، الإمام بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، ١٣٩١هـ-١٩٧٢م، دار المعرفة - بيروت.
بلاد شنقيط المنارة والرباط، الخليل النحوي، من مطبوعات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس ١٩٨٧م.
البيان لمواضع الآيات المفسرة في أضواء البيان، أبوأسامة حسن بن علي العواجي، دار الإيمان - الإسكندرية.
التاج والإكليل لمختصر خليل، لأبي عبدالله محمد بن يوسف العبدري الشهير بالموّاق، مطبوع بهامش مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لأبي عبدالله الطرابلسي المعروف بالحطاب، ملتزم الطبع والنشر: مكتبة النجاح - طرابلس - ليبيا.
التحرير والتنوير، سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان جمعها وصنّفها: عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس، الطبعة الثانية ١٤١٢هـ، دار الهجرة - الرياض.
تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول، خالد بن عبدالرحمن العك، الطبعة الأولى، ١٤١٩هـ-١٩٩٨م، دار المعرفة - بيروت.
التسهيل لعلوم التنزيل، الإمام الحافظ أبوالقاسم محمد بن أحمد نب جزي الكلبي الغرناطي، تحقيق: محمد عبدالمنعم اليونسي؛ إبراهيم عطوة عوض، دار الكتب الحديثة.
تفسير الجلالين بهامش القرآن الكريم، الإمام جلال الدين محمد بن أحمد المحلى، والإمام جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، يطلب من: مكتبة الرياض الحديثة - الرياض.
تفسير الجلالين من سورة غافر إلى سورة الناس، علق عليه وصوّبه: فضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي، الطبعة الثانية، ١٤١٦هـ-١٩٩٥م، مطبعة المدني - المؤسسة السعودية بمصر - القاهرة.
تفسير القرآن العظيم، الإمام عماد الدين أبوالفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، طبعة عام ١٤٠٠هـ-١٩٨٠م، دار المعرفة - بيروت.


الصفحة التالية
Icon