... وإن اختلفت أقوال المفسرين فهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد(١)، وعليه فالأولى " حمل الآية على جميع الأقوال الواردة "(٢). والله أعلم بالصواب.
- - -
معنى قوله تعالى: ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا ﴾
١٦- قوله تعالى: ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢) ﴾ [سورة الفرقان: ١٢].
مجمل الأقوال الواردة في الآية:
١- أن المراد بقوله تعالى: ((سمعوا لها تغيظاً)) أنهم يسمعون صوت غليان النار من شدة غيظها على الكفار(٣).
٢- أو يكون المراد أنهم يسمعون صوت زبانية النار، فنسب إلى النار على حذف المضاف(٤).
٣- أو أن الذي يُسمع هو تغيظ المعذبين وزفيرهم(٥).
٤- أو يكون المقصود بسماع التغيظ رؤيته وعلمه(٦).
ترجيح الشنقيطي:
... قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: " ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة: أن النار يوم القيامة، إذا رأت الكفار من مكان بعيد، أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها وعلا زفيرها، فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها وسمعوا زفيرها.
وما ذكره -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة بيّن بعضه في سورة الملك، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها، وأنهم يسمعون لها أيضاً شهيقاً مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه، وذلك في قوله تعالى: ﴿ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ [سورة الملك: ٧-٨] أي: يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله تعالى.

(١) شرح مقدمة التفسير لابن عثيمين ص(٢٩).
(٢) أنوار التنزيل للبيضاوي (٢/٦٩)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٣/٦).
(٣) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (٤/٥٩).
(٤) أنوار التنزيل للبيضاوي (٢/٧٠).
(٥) زاد المسير لابن الجوزي (٦/٦).
(٦) تفسير الجلالين ص (٣١٠).

٢- أن المراد بالآية ما يكون في الآخرة، " لما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبيًّا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [سورة الفتح: ٢] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار، وقالت الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت: ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [سورة الفتح: ٥]، ونزلت ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧) ﴾ [سورة الأحزاب: ٤٧] "(١).
ترجيح الشنقيطي:
... قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: " قوله تعالى: ((وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)) التحقيق إن شاء الله أن معنى الآية الكريمة: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فُعِلَ ببعض الأنبياء. وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة. وما أدري ما يفعل بكم أيخسف بكم، أو تنزل عليكم حجارة من السماء، ونحو ذلك. وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين.
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله - عز وجل - كقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ [سورة الأعراف: ١٨٨]، وقوله تعالى آمراً له - ﷺ - ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ [سورة الأنعام: ٥٠].
(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/١٨٥).

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، حققه وخرج أحاديثه: الدكتور عبدالرحمن عميرة، الطبعة الأولى، ١٤١٥هـ-١٩٩٤م، دار الوفاء - المنصور، دار الأندلس الخضراء - جدة.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، سليمان بن عمر العجيلي الشافعي الشهير بالجمل، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر، الناشر: دار المنار للنشر والتوزيع بالقاهرة.
الفوائد، الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تقديم وتحقيق وتعليق: محمد عثمان الخشت، بدون رقم الطبعة، ١٤١٣هـ-١٩٩٣م، دار الكتاب العربي - بيروت.
في الدراسات القرآنية واللغوية - الإمالة في القراءات واللهجات العربية، د. عبدالفتاح إسماعيل شلبي، الطبعة الثالث، ١٤٠٣هـ-١٩٨٣م، دار الشروق - جدة.
في ظلال القرآن، سيد قطب، الطبعة الشرعية السابعة، ١٣٩٨هـ-١٩٧٨م، دار الشروق - بيروت- القاهرة.
في علوم القراءات، د. السيد رزق الطويل، الطبعة الأولى، ١٤٠٥هـ-١٩٨٥م، المكتبة الفيصلية - مكة المكرمة.
القاموس المحيط، العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، الطبعة الثانية، ١٤٠٧هـ-١٩٨٧م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
القراءات العشر المتواترة - من طريقي الشاطبية والدرة، إشراف: محمد كريِّم راجح، الطبعة الأولى، ١٤١٢هـ-١٩٩٢م، مكتبة دار المهاجر للنشر والتوزيع.
قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين، المقرئ: أحمد بن أبي عمر المعروف بالأندرابي، تحقيق: د. أحمد نصيف الجنابي، الطبعة الثانية، ١٤٠٥هـ-١٩٨٥م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
قصص الأنبياء، الإمام أبوالفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق د. عبدالحي الفرماوي، الطبعة الأولى ١٤١٢هـ-١٩٩٢م - دار الطباعة والنشر الإسلامية - القاهرة.
قواعد الترجيح عند المفسرين، حسين بن علي بن حسين الحربي، الطبعة الأولى، ١٤١٧هـ، الناشر: دار القاسم - الرياض.


الصفحة التالية
Icon