والأظهر أن معنى قوله تعالى ((سمعوا لها تغيظاً)) أي: سمعوا غليانها من شدة غيظها، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه، وذلك أسلوب عربي معروف(١). وقال بعض أهل العلم: سمعوا لها تغيظاً أي أدركوه، والإدراك يشمل الرؤية والسمع، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك، وما ذكرنا أظهر "(٢).
الموافقون:
جمهور من المفسرين ذهبوا في بيان معنى الآية إلى مثل ما ذهب إليه الشنقيطي، ومنهم:
١- الإمام الطبري: " ((إذا رأتهم من مكان بعيد)) يقول: إذا رأت هذه النار التي اعتدناها لهؤلاء المكذبين أشخاصهم من مكان بعيد تغيظت عليهم، وذلك أن تغلي وتفور، يقال: فلان تغيظ على فلان وذلك إذ غضب عليه فغلى صدره من الغضب عليه وتبين في كلامه، وزفيراً وهو صوتها. فإن قال قائل: وكيف قيل سمعوا لها تغيظاً والتغيظ لا يسمع، قيل: معنى ذلك سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد "(٣).
٢- ابن عطية: " وقوله تعالى: ((سمعوا لها تغيظاً وزفيراً)) لفظ فيه تجوّز، وذلك أن التغيظ لا يسمع، وإنما المسموع أصوات دالة على التغيظ، وهي ولا شك احتدامات في النار كالذي يسمع في نار الدنيا، فَنِسْبَةُ هذا المسموع الذي في الدنيا من ذلك نسبة الإحراق من الإحراق هي سبعون درجة كما ورد في الصحيح "(٤).
٣- القرطبي: " ((سمعوا لها تغيظاً وزفيراً)) قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل: المعنى إذا رأتهم خزّانها سمعوا لهم تغيظاً وزفيراً حرصاً على عذابهم. والأول أصح "(٥).
(٢) أضواء البيان للشنقيطي (٦/٢٨٨).
(٣) جامع البيان للطبري (١٨/١٤٠).
(٤) المحرر الوجيز لابن عطية (١١/١١).
(٥) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٣/٧).
وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما(١) من أن المراد (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أي في الآخرة فهو خلاف التحقيق "(٢).
الشيخ الشنقيطي إذاً يرجح أن الآية يراد بها ما يكون في دار الدنيا.
الموافقون:
أعني بهم كل من رجح أن الآية يراد بها ما يكون في الدنيا، بأي واحد من التفصيلات الثلاثة المذكورة تحت القول الأول، ومنهم:
١- الإمام الطبري: "... ذلك أمر من الله جل ثناؤه نبيه - عليه السلام - أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم أو يؤمنوا به فيتبعوه، وأمرهم إلى الهلاك كما أهلكت الأمم المكذبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله - عز وجل - "(٣).
٢- الواحدي: " ((وما أدري ما يفعل بي)) إلى إيش يصير أمري معكم، أتقتلونني أم تخرجونني، ((ولا بكم)) أتعذّبون بالخسف أم بالحجارة، والمعنى: ما أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا "(٤).
٣- ابن جزي: " (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) فيها أربعة أقوال:
الأول: أنها في أمر الآخرة، وكان ذلك قبل أن يعلم أنه في الجنة، و قبل أن يعلم أن المؤمنين في الجنة وأن الكفار في النار، وهذا بعيد؛ لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله - عز وجل -.
الثاني: أنها في أمر الدنيا، أي لا أدري بما يقضى الله - عز وجل - عليّ وعليكم، فإن مقادير الله مغيبة، وهذا هو الأظهر.
الثالث: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وما تلزمه الشريعة.
(٢) أضواء البيان للشنقيطي (٧/٣٧٧).
(٣) جامع البيان للطبري (٢٦/٦).
(٤) الوجيز للواحدي (٢/٩٩٤).
قواعد التفسير، خالد بن عثمان السبت، الطبعة الأولى، ١٤٢١هـ، دار ابن عفان، الجيزة - جمهورية مصر العربية.
القول السديد في كشف حقيقة التقليد، العلامة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي، الناشر: مقتدي حسن أزهري - إدارة البحوث الإسلامية والدعوة والإفتاء بالجامعة السلفية - الهند، ذو القعدة ١٤٠٣هـ أغسطس ١٩٨٣م.
القول المفيد على كتاب التوحيد، شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الرابعة، ١٤٢١هـ، دار ابن الجوزي - الدمام.
كتاب الأنساب، الحافظ أبوسعد عبدالكريم بن محمد بن منصور الخراساني، قدم لها: محمد أحمد حلاق، الطبعة الأولى ١٤١٩هـ-١٩٩٩م، دار إحياء التراث العربي.
الكتاب الوثائقي عن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، صدر بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، رئيس لجنة إعداد الكتاب: أ. د. أحمد بن عطية الغامدي، الطبعة الأولى، ١٤١٩هـ-١٩٩٨م. طبع بمطابع مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر (دار العلم) - المملكة العربية السعودية - جدة.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبوالقاسم جارالله محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، رتبه وضبطه وصححه: محمد عبدالسلام شاهين، الطبعة الأولى ١٤١٥هـ-١٩٩٥م، دار الكتب العلمية - بيروت.
لباب التأويل في معاني التنزيل، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن، الناشر: دار الفكر - بيروت.
لباب النقول في أسباب النزول، الإمام جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، بذيل كلمات القرآن للشيخ حسنين محمد مخلوف، المطبوع بهامش القرآن الكريم، توزيع مكتبات عبدالمجيد مرزا.
لسان العرب، للعلامة: ابن منظور، طبعة جديدة مصححة وملونة أعتنى بتصحيحه أمين محمد عبدالوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، الطبعة الثالثة، ١٤١٩هـ-١٩٩٩م، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي - بيروت.