ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكاً للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير، فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا "(١).
وذهب إلى مثل ذلك أيضاً كل من الإمام الفراء(٢)، والبغوي(٣)، والزمخشري(٤)، وابن كثير(٥)، والسعدي(٦).
ولم أجد أحداً رجّح قولاً آخر، وإنما يذكرون أكثر من قول عند تفسيرهم للآية، مع ملاحظة أن أول قول يذكرونه هو القول الراجح لدى الشنقيطي ومن وافقه، وسأذكر كلام بعضهم وأشير إلى البقية اختصاراً، وهم على النحو الآتي:
أ- منهم مَنْ ذكر القول الأول والثاني من الأقوال الواردة في مجمل الأقوال، كالإمام أبي حيان(٧)، والبيضاوي(٨)، وأبي السعود(٩)، وإليك -مثلاً- كلام النسفي حيث قال: " ((سمعوا لها تغيظاً وزفيرا)) أي سمعوا صوت غليانها، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر، أو إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار "(١٠).
ب- منهم من ذكر القول الأول والثالث من مجمل الأقوال، كالإمام ابن الجوزي حيث قال: " قوله تعالى: ((سمعوا لها تغيظاً)) فيه قولان:
أحدهما: غليان تغيظ. قال المفسرون: والمعنى أنها تتغيظ عليهم، فيسمعون صوت تغيظها وزفيرها كالغضبان إذا غلى صدره من الغيظ.
(٢) معاني القرآن للفراء (٢/٢٦٣).
(٣) مختصر البغوي (٢/٦٥٦).
(٤) الكشاف للزمخشري (٣/٢٦٠).
(٥) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (٣/٣١٠).
(٦) تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص(٥٧٩).
(٧) البحر المحيط لأبي حيان (٨/٨٧).
(٨) أنوار التنزيل للبيضاوي (٢/٧٠).
(٩) إرشاد العقل السليم لأبي السعود (٤/١٦٢).
(١٠) مدارك التنزيل للنسفي (٣/١٢٣).
... ونحواً من عبارات من ذكرت جاء كلام الإمام النسفي(١)، والفخر الرازي(٢)، والقرطبي(٣)، والبقاعي(٤)، والقنوجي(٥)، والقاسمي(٦)، وابن عاشور(٧).
... أما القول بأنه يراد بالآية ما يكون في الآخرة فلم يرجحه أحد. وعليه فلا يوجد مخالف هنا.
تعقيب الباحث:
... الذي يظهر رجحانه هنا -والله أعلم- أن الآية يراد بها ما يكون في دار الدنيا، وهو ما رجحه الشنقيطي ومن قال بمثل قوله، يدل لذلك أمور:
١- أن هذا القول دلت عليه آيات أخرى من كتاب الله - عز وجل -، كقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ [سورة الأنعام: ٥٠]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ [سورة الأعراف: ١٨٨]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ [سورة هود: ٣١]، وتفسير القرآن بالقرآن أقوى أنواع التفسير (٨).
(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي (١٠/٩).
(٣) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/١٨٦).
(٤) نظم الدرر للبقاعي (١٨/١٣٥).
(٥) فتح البيان للقنوجي (١٣/١٥).
(٦) محاسن التأويل للقاسمي (١٥/٥٣٤٢).
(٧) التحرير والتنوير لابن عاشور (٢٦/١٧).
(٨) شرح مقدمة التفسير لابن عثيمين ص(١٢٧)، قواعد التفسير لخالد السبت (١/١٠٩).
مختصر التفتازاني على تلخيص المفتاح للقزويني في علم المعاني والبيان والبديع، الطبعة الأولى، ١٣٤٧هـ، مطبعة محمد علي صبيح - بمصر.
مختصر الشيخ خليل بن إسحاق في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس الأصبحي، طبع بحروسة باريز بمطبعة الدولة الجمهورية سنة ١٣١٨هـ الموافقة لسنة ١٩٠٠م من التاريخ المسيحي.
مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق: محمد على الصابوني، الطبعة السابعة، ١٤٠٢هـ-١٩٨١م، دار القرآن الكريم - بيروت.
مختصر تفسير البغوي، الإمام محي السنة أبومحمد الحسين بن مسعود الفرّاء البغوي الشافعي، اختصار وتعليق: الدكتور عبدالله بن أحمد الزيد، الطبعة الأولى، ١٤١٦هـ- ١٩٩٦م، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض.
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإيّاك نستعين، الإمام أبوعبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، راجع النسخة وضبط أعلامها: لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الأولى، دار الكتاب العلمية - بيروت.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أبوالبركات عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي، مطبوعات محمد علي صبيح وأولاده - ميدان الأزهر - القاهرة.
مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة والموقع التاريخي الرائد، د. محمد العيد الخطراوي، الطبعة الأولى، ١٤١٦هـ-١٩٩٠م، مكتبة دار التراث - المدينة المنورة.
مذكرة أصول الفقه، العلامة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي، المكتبة السلفية - باب الرحمة - المدينة المنورة.
مذكرة علوم القرآن ١٠٥ ق، أعدها الأستاذ: صالح السعود المحاضر بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بحائل.
مرويات الإمام أحمد بن حنبل في التفسير، جمع وتخريج: أحمد أحمد البزرة -محمد بن رزق الطوهوني- حكمت بشير ياسين، الطبعة الأولى، ١٤١٤هـ-١٩٩٤م، مكتبة المؤيد المملكة العربية السعودية.