وجملة الأمر أن الواجب أن يكون اللفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق وذلك لا يكون إلا بأن يقدم الأحساب على ضميره، وهو لو قال: وإنما أدافع عن أحسابهم استكن ضميره في الفعل، فلم يتصور تقديم الأحساب عليه، ولم يقع الأحساب إلا مؤخراً عن ضمير الفرزدق. وإذا تأخرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة.
فإن قلت: إنه كان يمكنه أن يقول: وإنما أدافع عن أحسابهم أنا، فيقدم الاحساب على أنا. قيل إنه إذا قال: أدافع، كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل، وكان أنا الظاهر تأكيداً له، أعني للمستكن. والحكم يتعلق بالمؤكد دون التأكيد، لأن التأكيد كالتكرير، فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم، ولا يكون تقديم الجار مع المجرور الذي هو قوله عن أحسابهم، على الضمير الذي هو تأكيد تقديماً له على الفاعل، لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل. ولا يكون لك إذا قلت: وإنما أدافع عن أحسابهم سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل، لأن ذكر الفاعل هاهنا هو ذكر الفعل من حيث إن الفاعل مستكن في الفعل فكيف يتصور تقديم شيء عليه؟ فاعرفه.
واعلم أنك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخرتهما جميعاً إلى ما بعد إلا فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي إلا منهما. فإذا قلت: ما ضرب إلا عمرو زيداً، كان الاختصاص في الفاعل، وكان المعنى أنك قلت: إن الضارب عمرو لا غيره. وإن قلت: ما ضرب إلا زيداً عمرو، كان الاختصاص في المفعول، وكان المعنى أنك قلت: إن المضروب زيد لا من سواه. وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك. تقول: لم يكس إلا زيداً جبة. فيكون المعنى أنه خص الجبة من أصناف الكسوة. وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولي جار ومجرور كقول السيد الحميري، من السريع:

لو خير المنبر فرسانه ما اختار إلا منكم فارسا
الاختصاص في منكم دون فارساً. ولو قلت: ما اختار إلا فارساً منكم، صار الاختصاص في فارساً.
واعلم أن الأمر في المبتدأ والخبر إن كانا بعد إنما على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول، إذا أنت قدمت أحدهما على الآخر. معنى ذلك أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدمه على المبتدأ كان الاختصاص فيه. وإن قدمته على المبتدأ صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ. تفسير هذا أنك تقول: إنما هذا لك. فيكون الاختصاص في لك بدلالة أنك تقول: إنما هذا لك لا لغيرك. وتقول: إنما لك هذا. فيكون الاختصاص في لك بدلالة أنك تقول: إنما هذا لك لا لغيرك وتقول: إنما لك هذا، فيكون الاختصاص في هذا بدلالة أنك تقول: إنما لك هذا لا ذاك: والاختصاص يكون أبداً في الذي إذا جئت بلا العاطفة كان العطف عليه. وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحاً فانظر إلى قوله تعالى: " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " وقوله عز وعلا: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك ". فإنك ترى الأمر ظاهراً أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو البلاغ والحساب دون الخبر الذي هو عليك وعلينا، وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو على الذين دون المبتدأ الذي هو السبيل.
واعلم أنه إذا كان الكلام بما وإلا كان الذي ذكرته من أن الاختصاص يكون في الخبر، إن لم تقدمه، وفي المبتدأ إن قدمت الخبر أوضح وأبين، تقول: ما زيد إلا قائم، فيكون المعنى أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها بجعله صفة له. وتقول: ما قائم إلا زيد فيكون المعنى أنك اختصصت زيداً بكون موصوفاً بالقيام. فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف، وفي الثاني الموصوف على الصفة. واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو ما زيد إلا قائم أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه. فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام، نحو أن يكون جالساً، أو مضطجعاً، أو متكئاً أو ما شاكل ذلك. ولم نرد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم أن يكون أسود أو أبيض، أو طويلاً أو قصيراً، أو عالماً أو جاهلاً. كما إنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد، لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم سواه، وإنما نعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا، وما أشبه ذلك.


الصفحة التالية
Icon