واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت، وقلت وشرحت في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث اللفظ لربما ظننت أني لم أصنع شيئاً، وذاك أنك ترى الناس كأنه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده على التقليد البحت، وعلى التوهم والتخيل. وإطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى قد صار ذاك الدأب والديدن، واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد. وهذا الذي بيناه وأوضحناه كأنك ترى أبداً حجاباً بينهم وبين أن يعرفوه، وكأنك تسمعهم منه شيئاً تلفظه أسماعهم، وتنكره نفوسهم. وحتى كأنه كلما كان الأمر أبين، وكانوا عن العلم به أبعد، وفي توهم خلافه أقعد، وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم وتأشب لأ فيها، ودخل بعروقه في نواحيها، وصار كالنبات السوء الذي كلما قلعته عاد فنبت. والذي له صاروا كذلك أنهم حين رأوهم يفردون اللفظ عن المعنى، ويجعلون له حسناً على حدة، ورأوهم قد قسموا الشعر، فقالوا: إن منه ماحسن لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناة، ومنه ما حسن معناه دون لفظه، ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى، ظنوا أن للفظ من حيث هو لفظ حسناً ومزية ونبلاً وشرفاً، وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة. وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن لهم في ذلك رأياً وتدبيراً، وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض وبين الصورة التي يخرج فيها، فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى إلى اللفظ ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له، كقولهم إنه حلي المعنى، وإنه كالوشي عليه، وإنه قد كسب المعنى دلا وشكلاً، وإنه رشيق أنيق، وإنه متمكن، وإنه على قدر المعنى، لا فاضل ولا مقصر، إلى أشباه ذلك مما لا يشك أنه لا يكون وصفاً له من حيث هو لفظ وصدى صوت. إلا أنهم كأنهم رأوا بسلاً حراماً أن يكون لهم في ذلك فكر وروية، وأن يميزوا فيه قبيلاً من دبير.
ومما الصفة فيه للمعنى، وإن جرى في ظاهر المعاملة على اللفظ إلا أنه يبعد عند الناس كل البعد أن يكون الأمر فيه كذلك، وأن لا يكون من صفة اللفظ بالصحة والحقيقة وصفنا اللفظ بأنه مجاز. وذاك أن العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين الحقيقة والمجاز: الحقيقة أن يقر اللفظ على أصله في اللغة، والمجاز أن يزال عن موضعه، ويستعمل في غير ما وضع له، فيقال: أسد، ويراد شجاع. وبحر ويراد جواد. وهو وإن كان شيئاً قد تحكم في النفوس، حتى إنك ترى الخاصة فيه كالعامة، فإن الأمر بعد فيه على خلافه. وذاك أنا إذا حققنا لم نجد لفظ أسد قد استعمل على القطع والبت في غير ما وضع له. ذاك لأنه يجعل في معنى شجاع على الإطلاق، ولكن جعل الرجل بشجاعته أسداً فالتجوز في أن ادعيت للرجل أنه في معنى الأسد، وأنه كأنه هو في قوة قلبه وشدة بطشه، وفي أن الخوف لا يخامره، والذعر لا يعرض له. وهذا إن أنت حصلت تجوز منك في معنى اللفظ، وإنما يكون اللفظ مزالاً بالحقيقة عن موضعه، ومنقولاً عما وضع له أن لو كنت تجد عاقلاً يقول: هو أسد، وهو لا يضمر في نفسه تشبيهاً له بالأسد، ولا يريد إلا ما يريده إذا قال شجاع، وذلك ما لا يشك في بطلانه.
وليس العجب إلا أنهم لا يذكرون شيئاً من المجاز إلا قالوا: إنه أبلغ من الحقيقة فليت شعري إن كان لفظ أسد، قد نقل عما وضع له في اللغة، وأزيل عنه وجعل يراد به شجاع، هكذا غفلاً ساذجاً. فمن أين يجب أن يكون قولنا: أسد، أبلغ من قولنا شجاع، وهكذا الحكم في الاستعارة، هي وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة اللفظ، وكنا نقول: هذه لفظة مستعارة، وقد استعير له اسم الأسد إن مآل الأمر إلى أن القصد بها إلى المعنى. يدلك على ذلك أنا نقول: جعله أسداً، وجعله بدراً، وجعله بحراً. فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى لم يكن لهذا الكلام وجه، لأن جعل، لا تصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء. كقولنا: جعلته أميراً، وجعلته واحد دهره، تريد: أثبت له ذلك. وحكم جعل، إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير، فكما لا تقول: صيرته أميراً، إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة، كذلك لا يصح أن تقول: جعلته أسداً، إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد. ولا يقال: جعلته زيداً. بمعنى سميته زيداً، ولا يقال للرجل: اجعل ابنك زيداً، بمعنى سمه زيداً، وولد لفلان ابن فجعله زيداً. وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصل.


الصفحة التالية
Icon