فأما قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً " فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، وذاك أن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم، أعني إطلاق اسم البنات. وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث، أو لفظ البنات اسماً من غير اعتقاد معنى، وإثبات صفة. هذا محال لا يقوله عاقل، أما تسمع قول الله تعالى: " أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة، ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم فأي معنى لأن يقال: أشهدوا خلقهم، هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، ولم يزيدوا على أن وضعوه اسماً لما استحقوا إلا اليسير من الذم، ولما كان هذا القول منهم كفراً، والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى.
وجملة الأمر أنه إن قيل: إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط ومن قبيح التورط من الذهاب مع الظنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا الشأن، ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب. وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً "، ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن معجز، ثم يصدون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله، ويسلكون غير سبيله. ولقد جنوا لو دروا ذاك عظيماً.
تحليل بعض الشواهد على اللفظ والمعنى
واعلم أنه، وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أن لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصر الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة يرى أنه يعرض للمسلم نفسه عند اعتراض الشك. وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبه الكلم في ضم بعضها إلى بعض بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، ورأى أن الذي ينسج الديباج، ويعمل النقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه شيئاً غير أن يضم بعضه إلى بعض ويتخير للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى في ظنه أن حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض، وفي تخير المواقع لها حال خيوط الإبريسم سواء، ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضم فيها ضماً، ولا الموقع موقعاً حتى يكون قد توخى فيها معاني النحو، وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضاً من غير أن تتوخى فيها معاني النحو لم تكن صنعت شيئاً تدعى به مؤلفاً، وتشبه معه بمن عمل نسجاً، أو صنع على الجملة صنيعاً، ولم يتصور أن تكون قد تخيرت لها المواقع.
وفساد هذا وشبيهه من الظن، وإن كان معلوماً ظاهراً، فإن هاهنا استدلالاً لطيفاً تكثر بسببه الفائدة، وهو أنه يتصور أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصورة التي أرادها الناظم له، ويفسدها عليه من غير أن يحول منه لفظاً عن موضعه، أو يبدله بغيره، أو يغير شيئاً من ظاهر أمره على حال. مثال ذلك أنك إن قدرت في بيت أبي تمام، من الطويل:

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
أن لعاب الأفاعي مبتدأ ولعابه خبر كما يوهمه الظاهر، أفسدت عليه كلامه وأبطلت الصورة التي أرادها فيه، وذلك أن الغرض أن يشبه مدار قلمه بلعاب الأفاعي على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات، وكذلك الغرض أن يشبه مداده بأري الجني على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقته عندها، وأدخل السرور واللذة عليها. وهذا المعنى إنما يكون إذا كان لعابه مبتدأ ولعاب الأفاعي خبراً. فأما تقديرك أن يكون لعاب الأفاعي مبتدأ، و لعابه خبراً فيبطل ذلك، ويمنع منه البتة، ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مراداً في مثل غرض أبي تمام، وهو أن يكون أراد أن يشبه لعاب الأفاعي بالمداد، ويشبه كذلك الأري به. فلو كان حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم، لكان ينبغي أن لا تتغير الصورة الحاصلة من نظم كلم، حتى تزال عن مواضعها. كما لا تتغير الصورة الحادثة عن ضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض، حتى تزال الخيوط عن مواضعها.


الصفحة التالية
Icon