وأشباه ذلك مما يجعل الشيء فيه فاعلاً على تأويل يدق، ومن طريق تلطف. وليس يكون هذا علماً بالإعراب، ولكن بالوصف الموجب للإعراب. ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتد في شأننا هذا بأن يكون المتكلم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال إنه أفصحهما، وبأن يكون قد تحفظ مما تخطىء فيه العامة، لا بأن يكون قد استعمل الغريب لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علماً باللغة بأنفس الكلم المفردة، وبما طريقه الحفظ، دون ما يستعان عليه بالنظر، ويوصل إليه بإعمال الفكر. ولئن كانت العامة وأشباه العامة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك فإن من ضعف النحيزة إخطار مثله في الفكر، وإجراءه في الذكر. وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز، أترى أن العرب تحدوا أن يختارو الفتح في الميم من الشمع، والهاء من النهر على الإسكان. وأن يتحفظوا من تخليط العامة في مثل هذا يسوى ألفاً، أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشي في الكلام يعارضون به القرآن. كيف وأنت تقرأ السورة من السور الطوال، فلا تجد فيها من الغريب شيئاً، وتأمل ما جمعه العلماء في غريب القرآن فترى الغريب منه إلا في القليل، إنما كان غريباً من أجل استعارة هي فيه كمثل: " وأشربوا في قلوبهم العجل " ومثل: " خلصوا نجيا " ومثل: " فاصدع بما تؤمر " دون أن تكون اللفظة غريبة في نفسها. إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل: " عجل لنا قطنا "، و " ذات ألواح ودسر " و " جعل ربك تحتك سرياً ".
ثم إنه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريباً لكان محالاً أن يدخل في الإعجاز، وأن يصح التحدي به. ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدي به من أن يتحدى من له علم بأمثاله من الغريب، أو من لا علم له بذلك. فلو تحدي به من يعلم أمثاله لم يتعذر عليه أن يعارضه بمثله، ألا ترى أنه لا يتعذر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى الطويل أن تعارض من يقول الشوقب بأن تقول أنت: الشوذب. وإذا قال: الأمق أن تقول: الأشق، وعلى هذا السبيل. ولو تحدي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب كان ذلك بمنزلة أن يتحدى العرب إلى أن يتكلموا بلسان الترك.
هذا وكيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة، وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتجنبه. أفلا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه في زهير: " إنه كان لا يعاظل بين القول، ولا يتتبع حوشي الكلام. فقرن تتبع الحوشي، وهو الغريب من غير شبهة، إلى المعاظلة التي هي التعقيد.
وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: ورأيت الناس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر عن لسان يزيد بن المهلب إلى الحجاج: " إنا لقينا العدو فقتلنا طائفة ولحقت طائفة " بعراعر الأودية وأهضام الغيطان وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه ". فقال الحجاج: ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام. فحمل إليه فقال: أين ولدت؟ فقال: بالأهواز فقال: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي. قال: ورأيتهم يديرون في كتبهم أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر، فانتهرها مراراً. فقال له يحيى: إن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها؟ ثم قال: وإن كانوا قد رووا هذا الكلام لكي يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة.


الصفحة التالية
Icon