هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزية، وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.
هذه جملة لا تزداد فيها نظراً، إلا ازددت لها تصوراً، وازدادت عندك صحة، وازددت بها ثقة وليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئاً إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق فيها. درى ذلك أو لم يدر. ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد النظم، فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق، من الطويل:
وما مثله في الناس إلا مملكا... أبو أمه حي أبوه يقاربه
وقول المتنبي، من الكامل:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها... من أنها عمل السيوف عوامل
وقوله:
الطيب أنت إذا أصابك طيبه... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وقوله: من الطويل:
وفاؤكما كالربع أشجاة طاسمه... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وقول أبي تمام، من الكامل:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن... لاثنين ثان إذ هما في الغار
وقوله، من البسيط:
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً... من راحتيك درى ما الصاب والعسل
وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف وإضمار أو غير ذلك ما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ، ولا يصح على أصول هذا العلم.
وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها. ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم ثبت أن الحكم كذلك في مزيته، والفضيلة التي تعرض فيه. وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم. والله الموفق للصواب.
وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم، خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس، أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم. وتأمله، فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟ وعند ماذا ظهرت؟ فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول البحتري، من المتقارب:
بلونا ضرائب من قد نرى... فما إن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثا... ت عزماً وشيكاً ورأياً صليبا
تنقل في خلقي سؤدد... سماحاً مرجى وبأساً مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخاً... وكالبحر إن جئته مستثيبا
فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزاراً في نفسك، فعد فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله: هو المرء أبدت له الحادثه ثات ثم قوله: تنقل في خلقي سؤدد بتنكير السؤدد، وإضافة الخلقين إليه. ثم قوله: فكالسيف، وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى: لا محالة فهو كالسيف. ثم تكريره الكاف في قوله: وكالبحر ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه. ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله صارخاً هناك ومستثيباً، هاهنا. لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أوما هو في حكم ما عددت، فأعرف ذلك. وإن أردت أظهر أمراً في هذا المعنى فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس:
فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب... وسلط أعداء وغاب نصير