تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور؟
وإني لأرجو بعد هذا محمداً لأفضل ما يرجى أخ ووزير
فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو لا إذ نبا على عامله الذي هو تكون. وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر. ثم أن قال: تكون ولم يقل: كان، ثم أن نكر الدهر ولم يقل: فلو إذ نبا الدهر، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد. ثم أن قال: وأنكر صاحب ولم يقل: وأنكرت صاحباً. ترى في البيتين الأولين شيئاً غير الذي عددته لك، تجعله حسناً في النظم، وكله من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبداً في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه.
مزايا النظم بحسب الموضع المراد والغرض
فصل في أن مزايا النظم بحسب الموضع وبحسب المعنى المراد والغرض المقصود وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة، ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها.
ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.
تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد من قوله: تنقل في خلقي سؤدد، وفي دهر من قوله: فلو إذ نبا دهر فإنه يجب أن يروقك أبداً وفي كل شيء. ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله: وأنكر صاحب، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا. بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم، وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش. فكما أنك ترى الرجل قد تهور في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يتهد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب. كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم.
واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين. فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق والاستاذية، وسعة الذرع، وشدة المنة حتى تستوفي القطعة، وتأتي على عدة أبيات، وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري. ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنة وطول الباع وحتى تعلم إنه لم تعلم القائل أنه من قبل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع. وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا هذا. وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البزل، ثم المطبوعين الذي يلهمون القول إلهاماً.
ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد، بل أن تفلي ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات، وذلك ما كان مثل قول الأول، وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم، من الوافر:
تمنانا ليلقانا بقوم تخال بياض لأمهم السرابا
فقد لاقيتنا فرأيت حرباً عواناً تمنع الشيخ الشرابا
انظر إلى موضع الفاء في قوله:
فقد لاقيتنا فرأيت حرباً
ومثل قول العباس بن الأحنف، من البسيط:
قالوا:
خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول، فقد جئنا خراسانا
انظر إلى موضع الفاء وثم قبلها. ومثل قول ابن الدمينة، من الطويل:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح؟ أم صيرتني في شمالك؟
أبيت كأني بين شقين من عصا حذار الردى أو خيفة من زيالك