تعاللت كي أشجى وما بك علة... تريدين قتلي؟ قد ظفرت بذلك
انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله:
تريدين قتلي؟ قد ظفرت بذلك
ومثل قول أبي حفص الشطرنجي، وقاله على لسان علية أخت الرشيد، وقد كان الرشيد عتب عليها، من البسيط:
لو كان يمنع حسن العقل صاحبه... من أن يكون له ذنب إلى أحد
كانت علية أبرا الناس كلهم... من أن تكافا بسوء آخر الأبد
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
انظر إلى قوله: قد كنت أحسب، وإلى مكان هذا الاستئناف.
ومثل قول أبي دؤاد، من الخفيف:
ولقد أغتدي يدافع ركني... أحوذي ذو ميعة إضريج
سلهب شرجب كأن رماحاً... حملته وفي السراة دموج
انظر إلى التنكير في قوله: كأن رماحاً. ومثل قول ابن البواب، من مجزوء الوافر:
أتيتك عائذاً بك من... ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي... لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي... فما لاقيته جلل
وإن قتل الهوى رجلاً... فإني ذلك الرجل
انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله: فإني ذلك الرجل. ومثل قول عبد الصمد، من السريع:
مكتئب ذو كبد حرى... تبكي عليه مقلة عبرى
يرفع يمناه إلى ربه... يدعو وفوق الكبد اليسرى
انظر إلى لفظ يدعو وإلى موقعها. ومثل قول جرير:
لمن الديار ببرقة الروحان... إذ لا نبيع زماننا بزمان
صدع الغواني إذ رمين فؤاده... صدع الزجاجة، ما لذاك تدان
انظر إلى قوله: ما لذاك تدان، وتأمل حال هذا الاستئناف. ليس من بصير عارف بجوهر الكلام، حساس متفهم لسر هذا الشأن ينشد أو يقرأ هذه الأبيات إلا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه يعجب ويعجب ويكبر شأن المزية به والفضل.
شواهد على النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع
واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً، وأن يكون حالك فيها حال الباني، يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة. فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معاً كقول البحتري، من الطويل:
إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر
وقوله، من الطويل:
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها... تذكرت القربى ففاضت دموعها
فهذا نوع. ونوع منه آخر قول سليمان بن داود القضاعي، من الوافر:
فبينا المرء في علياء أهوى... ومنحط أتيح له اعتلاء
وبينا نعمة إذ حال بؤس... وبؤس إذ تعقبه ثراء
ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير، من الطويل:
وإني وتهيامي بعزة بعدما... تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
وكقول البحتري، من الطويل:
لعمرك إنا والزمان كما جنت... على الأضعف الموهون عادية الأقوى
ومنه التقسيم، وخصوصاً إذا قسمت، ثم جمعت كقول حسان، من البسيط:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
ومن ذلك، وهو شيء في غاية الحسن، قول القائل، من البسيط:
لو أن ما أنتم فيه يدوم لكم... ظننت ما أنا فيه دائماً أبداً
لكن رأيت الليالي غير تاركة... ما سر من حادث أو ساء مطردا
فقد سكنت إلى أني وأنكم... سنستجد خلاف الحالتين غدا