قوله: سنستجد خلاف الحالتين غدا جمع فيما قسم لطيف. وقد ازداد لطفاً بحسن ما بناه عليه، ولطف ما توصل به إليه، من قوله: فقد سكنت إلى أني وأنكم.
وإذ قد عرفت هذا النمط من الكلام، وهو ما تتحد أجزاؤه حتى يوضع وضعاً واحداً، فاعلم أنه النمط العالي، والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه. ومما ندر منه ولطف مأخذه، ودق نظر واضعه، وجلى لك عن شأو قد تحسر دونه العتاق، وغاية يعيا من قبلها المذاكي القرح، الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين بيت امرىء القيس، من الكامل:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً | لدى وكرها العناب والحشف البالي |
والشيب ينهض في الشباب كأنه | ليل يصيح بجانبيه نهار |
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا | وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه |
وإنا وما تلقى لنا إن هجوتنا | لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق |
واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم له، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين. وذلك إذا كان معناك معنى لا يحتاج أن تصنع فيه شيئاً، غير أن تعطف لفظاً على مثله كقول الجاحظ: جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة. وكقول بعضهم: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأسهل طريقه. ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع: أيفاخرك الملك اللخمي؟ فو الله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولعيك خير من كلامه، ولخدمك خير من قومه. وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان: اللسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزين يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودة، وحاصد يحصد الضغينة، ومله يونق الأسماع.
فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعاً، وحتى تجد إلى التخمر سبيلاً، وحتى تكون قد استدركت صواباً.
فإن قلت: أفليس هو كلاماً قد اطرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ قيل: أما والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان والتحرز من اللحن، وزيغ الإعراب. فنعتد بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركاً فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه، ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطأ تركاً، حتى يحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضل روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه، وأن تعنى به. حتى إذا وازنت بين كلام وكلام ودريت كيف تصنع، فضممت إلى كل شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له، وميزت ما الصنعة منه في لفظه، مما هي منه في نظمه.
واعلم أن هذا أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون في النظم باب يكثر فيه الغلط ترى مستحسناً قد أخطأ بالاستحسان موضعه، فينحن اللفظ ما ليس له. ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام، قد حسن من لفظه ونظمه، فظننت أن حسنه ذلك كله للفظ منه دون النظم. مثان ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز، من الطويل:
وإني على إشفاق عيني من العدا | لتجمح مني نظرة ثم أطرق |