ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر. فلو قلت: أ أنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أ أنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس بقول ذاك، لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك: أموجود أم لا؟ ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنك تقول: أقلت شعراً قط؟ أرأيت اليوم إنساناً؟ فيكون كلاماً مستقيماً؟ ولو قلت: أ أنت قلت شعراً قط؟ أ أنت رأيت إنساناً؟ أخطأت، وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص، نحو أن تقول: من قال هذا الشعر. ومن بنى هذه الدار؟ ومن أتاك اليوم؟ ومن أذن لك في الذي فعلت؟ وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين. فأما قيل شعر على الجملة، ورؤية إنسان على الإطلاق، فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل، عن عين فاعله. ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن الفاعل من هو، وكان يصح أن يكون سؤالاً عن الفعل أكان أم لم يكن، لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.
واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة وهي للاستفهام قائم فيها إذا كانت هي للتقرير. فإذا قلت: أأنت فعلت ذاك؟ كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل. يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: " أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " لا شهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر بأنه منه كان. وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: أ أنت فعلت هذا؟. وقال هو عليه السلام في الجواب: " بل فعله كبيرهم هذا ". ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل. فإن قلت: أو ليس إذا قال: أفعلت فهو يريد أيضاً أن يقرره بأن الفعل كان منه بأنه كان على الجملة. فأي فرق بين الحالين؟ فإنه إذا قال: أفعلت؟ فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة. وإذا قال: أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه في نفي الفعل تردد. ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن، بدلالة أنك تقول ذلك، والفعل ظاهر موجود مشار إليه كما رأيت في الآية.
واعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان، وإنكار له لم كان، وتوبيخ لفاعله عليه. ولها مذهب آخر وهو أن يكون لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله. ومثاله قوله تعالى: " أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً " وقوله عز وجل: " أصطفى البنات على البنين. ما لكم كيف تحكمون ". فهذا رد على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدي إلى هذا الجهل العظيم. وإذا قدم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل، ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعراً: أ أنت قلت هذا الشعر؟ كذبت لست ممن يحسن مثله. أنكرت أن يكولن القائل، ولم تنكر الشعر. وقد تكون إذ يراد إنكار الفعل من أصله، ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل، مثال ذلك قوله تعالى: " قل الله أذن لكم " الإذن راجع إلى قوله: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ". ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله. إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك لأن يجعلوا في صورة من غلط، فأضاف إلى الله تعالى إذناً كان من غير الله فإذا حقق عليه ارتدع.