ومثال ذلك قولك للرجل يدعي أن قولاً كان ممن تعلم أنه لا يقوله: أهو قال ذاك حقيقة أم أنت تغلط؟ تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل لينصرف الإنكار إلى الفاعل، فيكون أشد لنفي ذلك وإبطاله. ونظير هذا قوله تعالى: " قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " أخرج اللفظ مخرجه إذا كان ثبت تحريم في أحد أشياء، ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله، ونفي أن يكون قد حرم شيء مما ذكروا أنه محرم. وذلك أن كان الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنه قد كان، ثم يقال لهم: أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟ ليتبين بطلان قولهم، ويظهر مكان الفرية منهم على تعالى.
ومثل ذلك قولك للرجل يدعي أمراً وأنت تنكره: متى كان هذا أفي ليل أم نهار؟ تضع الكلام وضع من سلم أن ذلك قد كان، ثم تطالبه ببيان وقته لكي يتبين كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتاً ويفتضح. ومثله قولك: من أمرك بهذا منا، وأينا أذن لك فيه؟ وأنت لا تعني أن أمراً قد كان بذلك من واحد منكم، إلا أنك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيق عليه، وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول: فلان، وأن يحيل على واحد.
وإذ قد بينا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل ماض، فينبغي أن ينظر فيه والفعل مضارع. والقول في ذلك أنك إذا قلت: أتفعل؟ وأ أنت تفعل؟ لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال. فإن أردت الحال كان المعنى شبيهاً بما مضى في الماضي، فإذا قلت: أتفعل؟ كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله، وكنت كمن يوهم أنه يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن. وإذا قلت: أ أنت تفعل؟ كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل. وكان أمر الفعل في وجوده ظاهراً وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن. وإن أردت ب تفعل المستقبل كان المعنى: إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه، وتزعم أنه لا يكون أو أنه لا ينبغي أن يكون. فمثال الأول، من الطويل:
ايقتلني والمشرفي مضاجعي | ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ |
فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل، وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه. ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله، فتجهله في طمعه فتقول: أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت؟ وعلى ذلك قوله تعالى: " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " ومثال الثاني قولك للرجل يركب الخطر: أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ أتغرر بنفسك؟ وقولك للرجل يضيع الحق: أتنسى قديم إحسان فلان؟ أتترك صحبته، وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان؟ كما قال، من الطويل:
أأترك إن قلت دراهم خالد | زيارته؟ إني إذاً للئيم |
جملة الأمر أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل، فإن بدأت بالاسم فقلت: أ أنت تفعل؟ أو قلت: أهو يفعل؟ كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور، وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل، وممن يجيء منه، وأن يكون بتلك المثابة. تفسير ذلك أنك إذا قلت: أأنت تمنعني؟ أ أنت تأخذ على يدي؟ صرت كأنك قلت: إن غيرك الذي يستطيع منعي، لأخذ على يدي ولست بذاك، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك. هذا إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز، ولأنه ليس في وسعه. وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه لأنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأن نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه. ومثاله أن تقول: أهو يسأل فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك. أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك؟ وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته، وأن نفسه نفس لا تسمو، وذلك قولك: أهو يسمح بمثل هذا؟ أهو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همة من ذلك، وأقل رغبة في الخير مما تظن.