وجملة الامر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل إنه يفعل أو قال هو: إني أفعل. وأردت ما تريده إذا قلت: ليس هو بالذي يفعل، وليس مثله يفعل. لا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت: أتفعل؟ ألا ترى أن المحال أن تزعم أن معنى في قول الرجل لصاحبه: أتخرج في هذا الوقت؟ أتغرر بنفسك. أتمضي في غير الطريق؟ أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك، وبموضع من يجيء منه ذاك. ذاك لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه، وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام. وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا: " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " أنا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام، وأن غيرنا من يفعله جل الله تعالى وقد يتوهم المتوهم في الشيء من ذلك أنه يحتمل، فإذا نظر لم يحتمل، فمن ذلك قوله:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي؟
وقد يظن الظان أنه يجوز أن يكون في معنى أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي، ويتعلق بأنه قال قبل:
يغط غطيط البكر شد خناقه | ليقتلني والمرء ليس بقتال |
واعلم أنا وإن كنا نفسر الاستفهام في مثل هذا بالإنكار، فإن الذي هو محض المعنى أنه لتنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه، فيخجل ويرتدع، ويعيا بالجواب، إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه. فإذا ثبت على دعواه قيل: فافعل، فيفضحه ذلك. وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ. وإما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته، وقيل له: فأرناه في موضع، وفي حال. وأقم شاهداً على أنه كان في وقت. ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل: إنه يكون حتى ينكر عليه كقولهم: أتصعد إلى السماء؟ أتستطيع أن تنقل الجبال؟ أ إلى رد ما مضى سبيل؟ وإذ قد عرفت ذلك، فإنه لا يقرر بالمحال، وبما لا يقول أحد: إنه يكون إلا على سبيل التمثيل، وعلى أن يقال له إنك في دعواك ما ادعيت بمنزلة من يدعي هذا المحال، وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع.
وإذ قد عرفت هذا فمما هو من هذا الضرب قونه تعالى: " أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ". ليس إسماع الصم مما يدعيه أحد، فيكون ذلك للإنكار. وإنما المعنى فيه التمثيل والتشبيه، وأن ينزل الذي يظن بهم أنهم يسمعون، أو أنه يستطيع إسماعهم منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدي العمي. ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل: أتسمع الصم؟. هو أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: " أ أنت خصوصاً قد أوتيت أن تسمع الصم " ؟ وأن يجعل في ظنه أنه يستطيع إسماعهم بمثابة من يظن أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصم. ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة من الكامل:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري | أطنين أجنحة الذباب يضير؟ |
واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل؟ أعني تقديم إسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع، من أن يكون بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل. فإذا قلت: أزيداً تضربظ كنت قد أنكرت أن يكون زيد بمثابة أن يضرب، أو بموضع أن يجترأ عليه، ويستجاز ذلك فيه، ومن أجل ذلك قدم غير في قوله تعالى: " قل أغير الله أتخذ ولياً " وقوله عز وجل: " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون " وكان له من الحسن والمزية والفخامة ما علم أنه لا يكون لو أخر، فقيل: قل أتتخذ غير الله ولياً؟ وأتدعون غير الله؟ وذلك لأنه قد حصل بالتقديم معنى قولك: أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً؟ وأيرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك. وأيكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك؟ ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل: أ أتخذ غير الله ولياً؟ وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط، ولا يزيد على ذلك فاعرفه.