ذاك لأنا وإن كنا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلا بالفعل، وكان لا يكون فعل إلا بالقدرة، فإنا لم نر فعلاً زان فاعله، وأوجب الفضل له، حتى يكون عن العلم صدره وحتى يتبين ميسمه عليه وأثره. ولم نر قدرة قط أكسبت صاحبها مجداً، وأفادته حمداً دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب، وقائدها حيث تؤم وتذهب، ويكون المصرف لعنانها، والمقلب لها في ميدانها، فهي إذاً مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه، وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه، وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره، وتقتفي رسمه، آلت ولا شيء أحشد للذم على صاحبها منها، ولا شين أشين من إعماله لها. فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلاً يخالفك فيه، ولا ترى أحداً يدفعه أو ينفيه. فأما المفاضلة بين بعضه وبعض، وتقديم فن منه على فن، فإنك ترى الناس فيه على آرء مختلفة، وأهواء متعادية ترى كلاً منهم لحبه نفسه وإيثاره أن يدفع النقص عنها يقدم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن. ويحاول الزراية على الذي لم يحظ به، والطعن على أهله والغض منهم. ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك: فمن مغمور قد استهلكه هواه، وبعد في الجور مداه، ومن مترجح فيه بين الإنصاف والظلم، يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم. فأما من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلا بالعمل، وحتى يصدر في كل أمره عن العقل، فكا لشيء الممتنع وجوده. ولم يكن ذلك كذلك إلا لشرف العلم وجليل محله، وأن محبته مركوزة في الطباع، ومركبة في النفوس، وأن الغيرة عليه لازمة للجبلة، وموضوعة في الفطرة، وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه، ولا ضعة أوضع من الخلو عنه، فلم يعاد إذاً إلا من فرط المحبة، ولم يسمح به إلا لشدة الضن.
ثم إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً، وأبسق فرعاً، وأحلى جنى، وأعذب ورداً، وأكرم نتاجاً، وأنور سراجاً، من علم البيان الذي لولاه لم تر لساناً يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري الشهد ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر. والذي لولا تحفيه بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر صورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها: إلى فوائد لا يحركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء. إلا أنك لن ترى على ذلك نوعاً من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه. فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون ردية، وركبهم فيه جهل عظيم، وخطأ فاحش. ترى كثيراً منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين، وما يجده للخط والعقد.
يقول: إنما هو خبر واستخبار، وأمر ونهي. ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلاً عليه. فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فارسية وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بين في تلك اللغة، كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها.
يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لكنة، ولا تقف به حبسة. وأن يستعمل اللفظ الغريب، والكلمة الوحشية. فإن استظهر للأمر، وبالغ في النظر، فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب، أو يخطىء فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب.
وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن ها هنا دقائق وأسراراً، طريق العلم بها الروية والفكر، ولطائف متقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام ووجب أن يفضل بعضه بعضاً، وأن يبعد الشأؤ في ذلك، وتمتد الغاية، ويعلو مرتقى، ويعز المطلب. حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر.