هم حلوا من الشرف المعلى... ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا
بناة مكارم وأساة كلم... دماؤهم من الكلب الشفاء
وقوله، من الطويل:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى... إلى ماله حالي أسر كما جهر
غلام رماه الله بالخير مقبلاً... له سيمياء لا تشق على البصر
وقوله، من الطويل:
إذا ذكر آبنا العنبرية لم تضق... ذراعي، وألقى باسته من أفاخر
هلالان حمالان في كل شتوة... من الثقل ما لا تستطيع الأباعر
حمالان: خبر ثان، وليس بصفة كما يكون لو قلت مثلاً: رجلان حمالان.
ومما اعتيد فيه أن يجيء خبراً قد بني على مبتدأ محذوف قولهم بعد أن يذكرو الرجل: فتى من صفته كذا، وأغر من صفته كيت وكيت. كقوله، من الطويل:
ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى... ولا عرف إلا قد تولى وأدبرا
فتى حنظلي ما تزال ركابه... تجود بمعروف وتنكر منكرا
وقوله، من الطويل:
سأشكر عمراً إن تراخت منيتي... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
ومن ذلك قول جميل، من البسيط:
وهل بثينة يا للناس قاضيتي... ديني وفاعلة خيراً فأجزيها؟
ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما... قلبي عشية ترميني وأرميها
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة... ربا العظام بلا عيب يرى فيها
من الأوانس مكسال مبتلة... خود غذاها بلين العيش غاذيها
وقوله، من الكامل:
إني عشية رحت وهي حزينة... تشكو إلي صبابة لصبور
وتقول: بت عندي، فديتك، ليلة... أشكو إليك فإن ذاك يسير
غراء مبسام كأن حديثها... در تحدر نظمه منثور
محطوطة المتنين مضمرة الحشا... ريا الروادف خلقها ممكور
وقول الأقيشر في ابن عم له موسر سأله فمنعه وقال: كم أعطيك مالي وأنت تنفعه فيما لا يعنيك؟ والله لا أعطيك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم، وذمه فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول، من الطويل:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه... وليس إلى داعي الندى بسريع
حريص على الدنيا مضيع لدينه... وليس لما في بيته بمضيع
فتأمل الآن هذه الأبيات كلها، واستقرها واحداً واحداً، وانظر إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم قلبت النفس تجد، وألطفت النظر فيما تحس به. ثم تكلف أن ترد ما حذف الشاعر، وأن تخرجه لفظك، وتوقعه في سمعك فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت، وأن رب حذف هو قلادة الجيد، وقاعدة التجويد. وإن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة، وأدل دلالة، فانظر قول عبد الله بن الزبير يذكر غريماً له قد ألح عليه، من الطويل:
عرضت على زيد ليأخذ بعض ما... يحاوله قبل اعتراض الشواغل
فدب دبيب البغل يألم ظهره... وقال: تعلم أنني غير فاعل
تثاءب حتى قلت: داسع نفسه... وأخرج أنياباً له كالمعاول
الأصل حتى قلت: هو داسع نفسه. أي حسبته من شدة التثاؤب، ومما به من الجهد يقذف نفسه من جوفه، ويخرجها من صدره كما يدسع البعير جرته. ثم إنك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ، وتباعده عن وهمك، وتجتهد أن لا يدور في خلدك، ولا يعرض لخاطرك. وتراك كأنك تتوقاه توقي الشيء يكره مكانه، والثقيل يخشى هجومه.
ومن لطيف الحذوف قول بكر بن النطاح، من السريع:
العين تبدي الحب والبغضا... وتظهر الإبرام والنقضا
درة ما أنصفتني في الهوى... ولارحمت الجسد المنضى
غضبى، ولا والله يا أهلها... لا أطعم البارد أو ترضى


الصفحة التالية
Icon