فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع، قوله: لملت، وألجؤوا، وأدفأت، وأظلت، لأن الأصل: لملتنا، وألجؤونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا. إلا أن الحال على ما ذكرت لك من أنه في حد المتناسي حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت: قد مل فلان، تريد أن تقول: قد دخله الملال. من غير أن تخص شيئاً، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، و تقول: هذا بيت يدفىء ويظل. تريد أنه بهذه الصفة.
واعلم أن لك في قوله: أجرت، ولملت فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم، ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله، وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقاً وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى، لأنك إذا قلت: ولكن الرماح أجرتني، لم يكن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين، فلا يجر شاعرهم. ونظيره أنك تقول: قد كان منك يؤلم، تريد ما الشرط مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان. ولو قلت: ما يؤلمني، لم يفد ذلك لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك. وهكذا قوله: ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت، يتضمن أن من حكم مثله في كل أم أن تمل وتسأم، وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن، وتتبرم مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد. وذلك أنه وإن قال أمنا فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها. ولو قلت: لملتنا لم يحتمل ذلك لأنه يجري مجرى أن تقول: لو لقيت أمنا ذلك لدخلها ما يملها منا. وإذا قلت: ما يملها منا، فقيدت لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن. وكذلك قوله: إلى حجرات أدفأت وأظلت، لأن فيه معنى قولك: حجرات من شأن مثلها أن تدفىء وتظل، أي هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ وأظل. ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول إذ لا تقول: حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا. هذا لغو من الكلام، فاعرف هذه النكتة، فإنك تجدها في كثير من هذا الفن مضمومة إلى المعنى الآخر. الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل، والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التباسه بمفعوله.
وإن أردت أن تزداد تبييناً لهذا الأصل أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله، ولا يدخلها شوب فانظر إلى قوله تعالى: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم أمرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل " ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع إذ المعنى: وجد عليه أمة من. الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، وقالتا: لا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما. ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره، ويؤتى بالفعل مطلقاً. وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأما ما كان المسقي غنماً أم إبلاً أم غير ذلك فخارج عن الغرض، وموهم خلافه. وذاك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود كما أنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك؟ كنت منكراً المنع، لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه.
ومما هو كأنه نوع آخر غير ما مضى قول البحتري، من الطويل:



الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي