قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني، وإن قربت مني شفتني، إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك، ويوجب اطراحه. وذاك لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه، وكأنه كالطبيعة فيه. وكذلك حال الشفاء مع القرب، حتى كأنه قال: أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني، وما قربها؟ هو الشفاء والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة إلا بحذف المفعول البتة فاعرفه. وليس لنتائج هذا الحذف، أعني حذف المفعول، نهاية، فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة، وإلى لطائف لا تحصى.
وهذا نوع منه آخر: اعلم أن هاهنا باباً من الإضمار والحذف يسمى الإضمار على على شريطة التفسير. ذلك مثل قولهم: أكرمني، وأكرمت عبد الله. أردت: أكرمنى عبد الله، وأكرمت عبد الله. ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر، وشيء لا يعبأ به، ويظن أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه وفيه إذا أنت طلبت الشيء من معدنه من دقيق الصنعة، ومن جليل الفائدة ما لا تجده إلا في كلام الفحول. فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري، من الكامل:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم | كرماً ولم تهدم مآثرخالد |
الأصل: لا محالة لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها. ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالته في الثاني عليه. ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف، ولا يظهر إلا اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، صرت إلى كلام غث، وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس. وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام، وبعد التحريك له أبداً لطفاً ونبلاً لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك، وأنت إذا قلت: لو شئت، علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء فهو يضع في نفسه أن هنا شيئاً تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم، عرف ذلك الشيء.
ومجيء المشيئة بعد لو وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع كقوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " " ولو شاء لهداكم أجمعين ". والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت، فالأصل: لو شاء الله يجمعهم على الهدى لجمعهم، و: لو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم. إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفاً. وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن، وذلك نحو قول شاعر، من الطويل:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته | عليه ولكن ساحة الصبر أوسع |
فقياس هذا لو كان على حد: ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أن يقول: لو شئت بكيت دماً، ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصاً. وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً. فلما كان ذلك، كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع ويؤنسه به.
وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبداً متى كان مفعول المشيئة أمراً عظيماً أو بديعاً غريباً، كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر. يقول الرجل يخبر عن عزة نفسه: لو شئت أن أرد على الأمير رددت، ولو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيت. فإذا لم يكن مما يكبره السامع فالحذف كقولك: لو شئت خرجت، ولو شئت قمت، ولو شئت أنصفت، ولو شئت لقلت. وفي التنزيل: " لو نشاء لقلنا مثل هذا " وكذا تقول: لو شئت كنت كزيد، قال، من البسيط:
لو شئت كنت ككرز في عبادته | أو كابن طارق حول البيت والحرم |
وكذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول: إن شئت قلت، وإن أردت دفعت: قال الله تعالى: " فإن يشأ الله يختم على قلبك " وقال عز اسمه: " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ". ونظائر ذلك من الآي ترى الحذف فيها المستمر. ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفة، من الطويل:
وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت | مخافة ملوي من القد محصد |
وقول حميد، من الطويل:إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة | أو الزرق من تثليث أو بيلملما |
مطوقة ورقاء تسجع كلما | دنا الصيف وانجاب الربيع فأنجما |
وقول البحتري، من الطويل: