معلوم أنك لو قلت: وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل: أو قلت: إذا شئت أن تغنيني بأجزاع بيشة غنتني، وإذا شاء أن يغادي صرمة غادى، ولو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها، أذهبت الماء والرونق، وخرجت إلى كلام غث، ولفظ رث. وأما قول الجوهري، من الطويل:
فلم يبق مني الشوق غير تفكري
فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا
فقد نحا به نحو قوله: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته، فأظهر مفعول شئت، ولم يقل: فلو شئت بكيت تفكراً لأجل أن له غرضاً لا يتم إلا بذكر المفعول، وذلك أنه لم يرد أن يقول: ولو شئت أن أبكي تفكراً بكيت كذلك. ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحول، فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول، حتى لو شئت بكاء فمريت شؤوني، وعصرت عيني، ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج بدل الدمع التفكر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدى إلى التفكر البتة، والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك صار الثاني كأنه شيء غير الأول، وجرى مجرى أن تقول: لو شئت أن تعطي لما أعطيت درهمين. في أن الثاني لا يصلح أن يكون تفسيراً للأول.
واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح: أكرمت وأكرمني عبد الله، ولكنه شبيه به في أنه إنما حذف الذي حذف من مفعول المشيئة والإرادة، لأن الذي يأتي في جواب لو وأخواتها يدل عليه.
وإذا أردت ما هو صريح في ذلك، ثم هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق، وفائدة جليلة فانظر إلى بيت البحتري، من الخفيف:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ
دد والمجد والمكارم مثلا
المعنى: قد طلبنا لك مثلاً، ثم حذف لأن ذكره في الثاني يدل عليه. ثم إن للمجيء به كذلك من الحسن والمزية والروعة ما لا يخفى. ولو أنه قال: طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلاً فلم نجده، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئاً. وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة هو نفي الوجود عن المثل. فأما الطلب فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكد به أمره. وإذا كان هذا كذلك فلو أنه قال: قد طلبنا لك السؤدد والمجد والمكارم مثلاً فلم نجده لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، وأوقعه على ضميره. ولن تبلغ الكناية مبلغ الصريح أبداً.
ويبين هذا كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وأنا أكتب لك الفصل حتى يستبين الذي هو المراد قال: والسنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب، ويقصر المجيب. ألا ترى أن قيس بن خارجة لما ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس، وقال: ما لي فيها أيها العشمتان؟ قالا: بل ما عندك؟ قال عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب. آمر فيها. بالتواصل، وأنهى فيها عن التقاطع. قالوا: فخطب يوماً إلى النيل فما أعاد كلمة ولا معنى. فقيل لأبي يعقوب: هلا اكتفى بالأمر بالتواصل، عن النهي عن التقاطع؟ أوليس الأمر بالصلة هو النهي عن القطيعة؟ قال: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإيضاح والتكشيف. انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه، فقد بصرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل كإيقاعه على ضميره.
وإذ قد عرفت هذا فإن هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري، فيعمل الأول من الفعلين، وذلك قوله، من الوافر: