أعمل لم أمدح الذي هو الأول في صريح لفظ اللئيم، وأرضى الذي هو الثاني في ضميره. وذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحاً، والمجيء به مكشوفاً ظاهراً هو الواجب من حيث كان أصل الغرض. وكان الإرضاء تعليلاً له. ولو أنه قال: ولم أمدح لأرضي بشعري لئيماً، لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل وأبانه فيما ليس بالأصل فاعرفه. ولهذا الذي ذكرنا من أن للتصريح عملاً لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل " وقوله تعالى: " قل هو الله أحد. الله الصمد " من الحسن والبهجة، ومن الفخامة والنبل ما لا يخفى موضعه على بصير. وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل: وبالحق أنزلناه وبه نزل. وقل هو الله أحد هو الصمد لعدمت الذي أنت واجده الآن ".
تحليل شاهد متميز للحذف عند البحتري
قد بان الآن واتضح لمن نظر نظر المتثبت الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل والازدياد من الفضل ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر. ولا يعدو الذي يقع في أول الخاطر، أن الذي قلت في شأن الحذف وفي تفخيم أمره، والتنويه بذكره، وأن مأخذه مأخذ يشبه السحر، ويبهر الفكر، كالذي قلت: وهذا فن آخر من معانيه عجيب، وأنا ذاكره لك: قال البحتري في قصيدته التي أولها، من الطوي:
أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم
وهو يذكر محاماة الممدوح عليه وصيانته له ودفعه نوائب الزمان عنه:
وكم ذدت عني من تحامل حادث | وسورة أيام حززن إلى العظم |
فروق في الخبر
أول ما ينبغي أن يعلم منه أنه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة، لا تتم الفائدة دونه، وخبر ليس بجزء من الجملة، ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له.
فالأول خبر المبتدأ كمنطلق في قولك: زيد منطلق. والفعل كقولك: خرج زيد. فكل واحد من هذين جزء من الجملة، وهو الأصل في الفائدة.
والثانى هو الحال كقولك: جاءني زيد راكباً. وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة من حيث إنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدأ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبت الركوب في قولك: جاءني زيد راكباً لزيد؟ إلا أن الفرق أنك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، ولم تجرد إثباتك للركوب ولم تباشره به، بل ابتدأت فأثبت المجيء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التبع للمجيء، وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو: زيد منطلق، وخرج عمرو فإنك مثبت للمعنى إثباتاً جردته له، وجعلته يباشره من غير واسطة، ومن غير أن تتسبب بغيره إليه فاعرفه.