وإذ قد عرفت هذا الفرق فالذي يليه من فروق الخبر هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم وبينه، إذا كان بالفعل وهو فرق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه. وبيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء. فإذا قلت: زيد منطلق. فقد أثبت الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد، ويحدث منه شيئاً فشيئاً. بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: زيد طويل وعمرو قصير. فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث، بل توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: زيد منطلق. لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذلك، فإذا قلت: زيد ها هو ذا ينطلق. فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً، وجعلته يزاوله ويزجيه. وإن شئت أن تحس الفرق بينهما من حيث يلطف فتأمل هذا البيت، من البسيط:

لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
هذا هو الحسن اللائق بالمعنى. ولو قلته بالفعل: لكن يمر عليها وهو ينطلق، لم يحسن. وإذا أردت أن تعتبره بحيث لا يخفى أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه فانظر إلى قوله تعالى: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " فإن أحداً لا يشك في امتناع الفعل هاهنا، وأن قولنا: كلبهم يبسط ذراعيه، لا يؤدي الغرض. وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة، وتجدد الصفة في الوقت. ويقتضي الاسم ثبوت الصفة، وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً. ولا فرق بين: " وكلبهم باسط " وبين أن يقول: وكلبهم واحد، مثلاً في أنك لا تثبت مزاولة، ولا تجعل الكلب يفعل شيئاً، بل تثبت بصفة هو عليها. فالغرض إذاً تأدية هيئة الكلب. ومتى اعتبرت الحال في الصفات المشبهة وجدت الفرق ظاهراً بيناً، ولم يعترضك الشك في أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت: زيد طويل وعمرو قصير، لم يصلح مكانه: يطول ويقصر، وإنما تقول: يطول ويقصر، إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبي، ونحو ذلك مما يتجدد فيه الطول، أو يحدث فيه القصر. فأما وأنت تحدث عن هيئة ثابتة وعن شيء قد استقر طوله، ولم يكن ثم تزايد وتجدد فلا يصلح فيه إلا الاسم.
وإذا ثبت الفرق بين الشيئين في مواضع كثيرة، وظهر الأمر بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، وجب أن تقضي بثبوت الفرق، حيث ترى أحدهما قد صلح في مكان الآخر، وتعلم أن المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفي على الجلي. وينعكس لك هذا الحكم أعني أنك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثم لا يصلح الاسم مكانه، ولا يؤدي ما كان يؤديه. فمن البين في ذلك قول الأعشى، من الطويل:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
معلوم أنه لو قيل: إلى ضوء نار محرقة لنبا عنه الطبع، وأنكرته النفس. ثم لا يكون ذاك النبو وذاك الإنكار من أجل القافية، وأنها تفسد به من جهة أنه لا يشبه الغرض، ولا يليق بالحال. وكذلك قوله، من الكامل:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم